أخبار مصر

ليلنا خمر

وقت النشر : 2023/11/15 10:54:56 PM

ليلنا خمر
بقلم: الكاتب والناقد حاتم سلامة

إن حرفًا واحدًا أكتبه اليوم عن غير فلسطين، يتفاقم معه في نفسي شعور هائل بالخيانة وانعدام النخوة والمروءة، ولا أستطيع أن أسامح نفسي أبدًا عن أي عمل أعمله من أشغال الفكر والأدب، في الوقت الذي تباد فيه غزة وأهلها.
منذ أن بدأ طوفان الأقصى والدنيا قد توقف فيها كل لون من ألوان الحياة مما كنا نألفه حولنا، فهو الحداد الذي لا يتوقف، والعزاء الذي لا نعلم له نهاية.
وأقصى ما نطالب به اليوم من حقوق فلسطين علينا أن ندعمها بالحس والشعور، وتكون أفعالنا ومكتوباتنا مكتوية بنيران المحنة وألم المصاب.

ما حدث بين الفنانين والسقوط المذهل لبيومي فؤاد، والانتصار الكبير لمحمد سلام، لم يكن موجودًا على المستوى الفني فقط، بل نرى هذا الخذلان موجودًا بهيئته وصورته حتى على الساحة الأدبية، فمن العار الكبير أن يذهب أديب لمناقشة رواية رومانسية أو ديوان شعر غرامي في صالون أدبي أو ندوة أدبية، والمسلمون في غزة تنحر رقابهم، وتعلن أرض غزة أنها تشبعت من الدماء التي توشك أن تتحول فيها إلى أنهار جارية.

محنة غزة ليست مجرد محنة شعب يتعرض للإبادة، بل هي اليوم الشهادة الكبرى والاختبار الأعظم على …..
ضميرك إن كان حيًا أو ميتًا.
على إحساسك إن كان يقظًا أم متبلدًا.
على شعورك إن كان دافقًا أم متجمدًا.
كثيرون منا فقدوا معنى انتماءهم العربي والإسلامي، وصاروا يقيمون الحفلات والليالي الملاح، وإخوانهم في أتون الجحيم عاجزون لا نصير لهم.
لا نطالبك أن تحمل السلاح وتنجدهم، فلن تستطيع فعل ذلك، فقط نطلب منك أن تكون على مستوى الحدث، تقدر مسؤولية قلمك وأدبك في نصرة إخوانك، والتحام مشاعرك بهمهم، وإحساسك بمصابهم.
تحترم المصيبة فلا تواجهها بمرح وانتشاء، تخشع للدماء فلا تقوم بما يثبت أنك غير عابئ بمصيبة أو مفزوع لبلواء.
وأنا هنا لا أعيب على أحد مكتوبه، ولا أعير أحدًا بموقفه، فلكل إنسان حريته وإيمانه وقناعاته، ولكني أصف حالي وما أجد من نفسي.

في خضم الأحداث المريعة والمذابح الهائلة والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة، تحرك العالم كله وخرج عن صمته، وراعه ما يفعله اليهود في الشعب الأعزل، ولم تنطل عليه الخدع الإعلامية التي يمارسها العدو ويعد لها منذ أزمان طويلة حتى يفهم الجميع أنه صاحب الحق في هذه البلاد، ولكن كل ذلك ضاع سدى حينما كشف عن وجهه الحقيقي وحقارته وعنصريته، والبشاعة التي أبانت أخس عناصر البشرية التي استحلت دماء الأطفال والضعفاء والنساء ولم ترجم الشيوخ ولا المسنين ولا المصابين في المستشفيات وهم ملقون على الأرض مدرجين في دمائهم في نزعهم الأخير، يرجون من يغيثهم وينجيهم ويهب لهم الحياة ولكن لا مجيب.
لكن لندع العالم وأحراره وننظر هنا بين أيدينا وفي بلداننا العربية.
يقول الشيخ الغزالي:
“الكيان الإسلامي يتقطع في مواضع كثيرة، وإذا الأعداء ينفردون قديمًا بالقدس أو بأنطاكية أو ببغداد، أو الفلبين أو نيجيريا ويذيقون أهلها الحتوف، وبقية المسلمين في المدائن والقرى جاهلون أو عاجزون.

أمس كنت أتابع الاستماع إلى آخر الأنباء عن مجزرة الفلسطينيين في بيروت، وسمعت أن رفات الموتى لا يزال متناثرًا في أنحاء المخيمات، وأن عفونة الجثث بدأت رائحة الجو، وأن رجال الصليب الأحمر شرعوا يحفرون مقابر جماعية ليخفوا آثار المأساة أو ليمنعوا انتشار الأوبئة.
وحولت مؤشر (الراديو) لأسمع كلامًا آخر، فإن روحي يكاد يزهق من الحزن!!
وصدمت أذني إذاعة القاهرة وهى تقدم للمستمعين في فترة الظهيرة من 21 سبتمبر 1982 أو أيلول الأسود كما يسميه البعض – أغنية عبد الوهاب ليلنا خمر .!
ورأى أحد جلسائي تغير وجهي، وهمست وأنا مستغرب: كان من الممكن أن تقدم الإذاعة للمغني نفسه، وللمؤلف نفسه، قصيدة أخي جاوز الظالمون المدى فما هذا العمى؟!
إن قصيدة ليلنا خمر ما يجوز أن تذاع أبدًا، فالإسلام يحرم الخمر ليلًا ونهارًا، وعندما كانت الخمر مباحة في الجاهلية العربية حرمها العرب على أنفسهم عندما يضامون ويكون لهم ثأر، حتى لا تنسيهم الخمر ألمهم وتسليهم عن مصابهم.
فكيف يسمعون الآن من يغنيهم بصوت رخيم “ليلنا خمر”؟،
لكن واضعي البرامج والمشرفين على الإعلام في وادٍ آخر، إنهم ينادون من مكان بعيد ويظهر أن العرب أصبحوا الآن بعرًا على صعيد هذه الأرض، فهم يتلقون الأذى سكارى أو طلاب سكر
إن إسرائيل أيها الأدباء والكتاب تؤمن بالقلم والأدب ودوره الفريد في صياغة العقول وإلهامها ما تريده من غايات، وليس هذا ما تفعله مع الأطفال وحدهم، وإنما هو نفس سياستها مع الكبار، حيث تدرك سحر الأدب في تشكيل عقول الشعوب، ولم تجد مناصًا من ركوبه وامتطائه حتى تجمل باطلها، وإيهام شعوب العالم بحقها المزيف، تأمل ما حدث للكاتب المبدع (عبد المنعم الصاوي) في تلك الحادثة التي يرويها لنا فيقول: (قبل نحو ثلاثين عامًا، أُتيح لي إعادة اكتشاف دور الأدب في الصراع الدولي، وقدرة رواية على أن تفعل في الهند ما لا تستطيع اثنتان وعشرون سفارة عربية، ومكتبان أحدهما لجامعة الدول العربية، كان يترأسه د. كلوفيس مقصود، والآخر لمنظمة التحرير الفلسطينية .

كنتُ في زيارة لإحدى كبرى مزارع البُن في جنوب الهند، حين كلّف صاحب المزرعة الثري، ابنته الشابة بمرافقتي، وزميل صحفي فلسطيني، يحمل الجنسية الأردنية في جولة بالمزرعة، وفي أثناء الجولة سألت الفتاة عن البلاد التي ننتمي إليها، فقال لها صديقي: أنا من فلسطين، فاتّسعت حدقتا الفتاة، وتساءلت بدهشة: أين تقع تلك الفلسطين؟! حار صديقي في الشرح، ورحت أحاول مساعدته، فرسمتُ لها خارطة فوق الرمال، وأشرت إلى موقع فلسطين على الخارطة، وإذا بالفتاة تصرخ: لا.. لعلّك تقصد إسرائيل؟! وعندما سألتها: من أين سمعتِ بإسرائيل؟ قالت: قرأتُ رواية ليون أوري، أي (سفر الخروج)، إنها الأكثر مبيعًا في الهند، بيعت منها ملايين النسخ، ثم قرأتُ للكاتب ذاته رواية (وا قدساه)، آنذاك لم تكن لإسرائيل سفارة بالهند، فيما تفسح نيودلهي صدرها لاحتضان مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية، يقضي رجاله معظم وقتهم حول مسبح فندق (أوبروى) بنيودلهي؛ ليكحلوا عيونهم -على حد تعبيرهم- بمشاهد نساء شرق أوروبا اللائي يمضين يومهن بالمسبح، بانتظار عودة أزواجهن (الخبراء الأجانب) من أعمالهم.
(سفر الخروج) للأديب الأمريكي اليهودي (ليون أوري)، فعل لإسرائيل ما لم تفعله كل سفارات العرب، وكل مكاتب الجامعة العربية، وكل مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية، بل بلغ من فرط اهتمامهم بالأدب أن صاروا يترجمون روايات الأدباء العرب الذين هم أعداؤهم!

زر الذهاب إلى الأعلى