أخبار مصر

الليلة الأخيرة

الليلة الأخيرة

وقت النشر : 2021/12/13 11:38:33 PM

الليلة الأخيرة
بقلم: صفاء كروش

وجدت تلك الصورة فى أحد أدراجي، وأنا أعبث بأشيائي القديمة، فهي عادة لي منذ الصغر أن أدس أشيائي، وأخبئها عن الآخرين لأشعر أن لدي أسرارا، ثم أعاود وأبحث عنها لعلي أجد فيها شيئا جديدا، وعندما أطلت علي ذكرتني بماض بعيد كان كأنه حلم.

كانت إحدى ليالي الشتاء الباردة، أطلقت عليها ليلة حب، قابلته وأنا خائفة أتلفت حولي، فكنت عاقدة العزم على أن تكون ليلتنا الأخيرة.

وعندما أطل من بعيد وجدته كعادته بوسامته وأناقته المعهودة على بساطتها، وما إن التقيت بعينيه نسيت ما عاهدت نفسي وعاهدت أبي عليه، وبدأ حديثه:
– الأزرق يليق بك، فهو لون البحر ولون عينيك، إلا أن البحر له شاطىء وعينيك بلا شاطىء؛ أغرق فيهما وأبحر بلا نهاية، ليتني لا أنجو من هذا الغرق، ففيهما حياتي وأماني.
زين شعري بفراشات زرقاء، ووضع قبلة في راحة يدي، ليزداد خفقان قلبي خوفا من أن أفقد هذا الحلم، ولا أعلم؛ لم وجدتني مذعورة؟

فتركته وهربت وكأنني رأيت شبحا، نعم إنه شبح، شبح أبي وصدى صوت أبي.

عدوت بسيارتي أطوي الطريق طيا، لا ألوي على شيء، إلا أن صدى صوته يرن في أذني: إنه لا يصلح لك، إنه فقير، إنه طامع فيك، إنه لا مستقبل له، إنه.. إنه… إنه.
ولم يذكر أنه شريك في مكتب هندسي مرموق، سيطرت علي كل أفكار أبي لعمر طويل، فأنا
ابنته الهادئة، الوديعة، المطيعة، لا أخالف له أمرا، ولا أعصي له رغبة، فأنا ابنته وأمه بعد أمي.
هو انكفأ علي لا يرى غيري ولا أرى غيره، كنت أثيرته وأسيرة فضله وحبه، لم يأت لي بزوجة أب، بل عاش لي، ولكن إلى متى سأظل حبيسة أفكار أبي بأنني الأفضل وأستحق الأفضل، وأنه لم يأت بعد الرجل المناسب لي؟

وهل أستطيع هذه المرة أيضا أن أتخلى عن حلمي وأعيش في حلم أبي؟!

لقد قاربت الأربعين من عمري، وما زلت الأسيرة المدللة لأبي، إنه لا يريد أن يتخلى عني.
وفي ظل سكون الشتاء المريع، وهذه العاصفة من الأفكار، اتخذت جانبا من الطريق، وتوقفت بسيارتي لتنحدر على وجنتي دموع ساخنة، وألم في صدري لا أعلم له موئلا، إلا أنني لا بد أن أتخذ القرار الذي لا مفر منه.

لقد قررت أن أترك قطعة من روحي وسنيني وأن أتخلص من أفكاري المشوشة، فإلى متى سأظل قيد تلك الفكرة اللعينة؟
غروبي سيأتي لا محالة، سأترك سجاني الحبيب، وزنزانة أفكاري التي عشت فيها عمرا طويلا، خفت فيه من الشمس والهواء حتى خفت فيه من نفسي. أصبحت لقمة سائغة لأفكار مشوشة بأني الأفضل، إلى أن جاءني بالفعل من به أصبحت ملكة على عرش فؤاده.

أأتركه بهذه السهولة؟! وهل لدي من العمر ما أجازف به؟!

كان ما يجذبني للعمر الآتي أقوى من الماضي الذي اعتدت عليه، مخاوفي الآتية لا بد أنها لن تكون أسوأ من الماضية، سألحق ما تبقى لي من العمر.
بلا مقدمات أخرى وجدتني أعود أدراجي لحبيبي، وهزمت يأسي، وحطمت أغلالي، والآن أعيش سعادة لا ينقصها إلا أن يرضى عني سجاني، فهل سيجود علي الزمان بها؟!

زر الذهاب إلى الأعلى