أخبار مصرأدبي

لا تكن خنزيرا

وقت النشر : 2022/01/11 10:41:26 PM

لا تكن خنزيرا

قصة قصيرة

بقلم: الزهراء محمد سعيد

– صباح الخير، حضرتك الطبيب الجديد؟

– صباح النور، نعم، أنا الطبيب الجديد “محمد عبد الرحمن”

– أهلا بحضرتك، تقدر تنتظر دكتورة هناء مديرة المستشفى في مكتبها.

كان هذا يومي الأول للعمل بمستشفى الأمراض العقلية والعصبية، إن العمل بمجال الطب النفسي كان حلمي منذ الطفولة، أستمتع حقا بالغوص في أعماق النفس البشرية، ففي داخل النفوس ما قد يعجز العقل عن تصديقه، لكن أبي المزارع البسيط كان دائما يحثني على دراسة أمراض القلب حتى أستطيع مداواة قلبه المريض، حاولت كثيرا شرح أهمية الطب النفسي لأبي، لكن عقله لا يعترف إلا بطبيب يعاين المريض بسماعته، ويصف الدواء، ويُجري العمليات الجراحية، هذا هو الطب بالنسبة له، لا أعلم لو كان على قيد الحياة، هل كنت غيرت وجهتي وتخصصت في دراسة أمراض القلب، رحمك الله يا أبي.

الآن، أنا في طريقي لمكتب الدكتورة هناء، هل أبدو مضطربا؟ لا، يجب أن أكون أكثر تماسكا وجِديَّة، طبيب نفسي ومضطرب، كيف ذلك؟ عليّ الثبات، لكنه يومي الأول، لا ضرر من بعض القلق.

رتبت ملابسي، ورابطة عنقي، وطرقت الباب طرقات خفيفة، فجاء صوتها يسمح لي بالدخول.

– السلام عليكم، دكتور محمد عبد الرحمن، تم تعييني اليوم

– عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قالتها وهي تتفحص بعض الأوراق ثم رفعت رأسها تتفحصني بيعينيها، كان شعرها غير منظم، خصلاته كأنها في معركة، وعيناها تنمان عن فطنة وذكاء، كان هذا انطباعي عنها.

أشارت إليَّ بالجلوس، جلست بمقعد بالقرب من مكتبها ومقابل لها، قالت: دكتور محمد عبد الرحمن، ماجيستير في علم النفس، من الواضح أنك طبيب متميز لذلك تم إرسالك للمستشفى، هنا قسم أخطر القتلة، هنا بحكمك نرسلهم للموت أو للحياة، هنا تجد أحداثا لا يصدقها عقل.

في الحقيقة، كانت بداية قوية، قلت وكلي حماس: أنا أتشوق للتعامل مع تلك الحالات

– قالت في تعجب: ألا تخشى مجالستهم

– قلت: هم بشر ومرضى، أنا أتعامل معهم كبشر

نظرت إليّ برهة وهي تنقر بأطراف أصابعها على أحد الملفات ثم قالت: على سبيل المثال حالة غريبة لمريضة شرسة، لكنها ذكية، قصتها في هذا الملف، جريمة قتل بشعة، قتلت زوجها وضرتها ومثَّلت بجثتيهما بوحشية أمام طفليها، هل تسطيع تأكيد مرضها من عدمه، وهل لو كانت مريضة تغفر لها جريمتها؟

– قلت: لا بد أن أتحدث معها أولا، وأيضا أقرأ قصتها من البداية لأتبين لماذا فعلت فعلتها؟

– قالت: أما عن قصتها فهي كالتالي:

لقد تزوجت وأحبت زوجها بجنون، رزقت بطفلين، منحت زوجها قلبها وحياتها بالكامل وعندما طلب أموالها الخاصة بحجه التوسع في عمله، منحته كل أموالها في سعادة، ولكنه خانها ومع أقرب صديقاتها، فهي لا تملك أخوة، ويتيمة الأب والأم ،كذَّبت الكلام، وركضت لزوجها، فبكل وقاحة أقر بخيانته بل بزواجه منها بأموالها، أصيبت بصدمة عصبية، لكنه لم يهتم بألمها ودمعها، ألا تتفق معي أنه قذر.

قلت: بالطبع أتفق، فأكملت:

لكن ما زاد ألمها أنه أحضر زوجته الجديدة لتعيش بمنزلها لتصبح مريضتنا ضيفة، وهي مالكة المنزل.

صرخت، رفضت، لكنه لم يهتز بل طلب منها الرحيل أو البقاء معهما بدون تدخل في أي شيء، هو يعلم جيدا أنها لا منزل لها ولا عائلة. بالفعل قبلت بالحياة كضيفة فأهانوها بكل الطرق، تحملت كثيرا من أجل طفليها، أصابها الاكتئاب، تمنت الموت، صمتت، حتى تلك الليلة عندما تشاجرت مع صديقتها وتدخَّل زوجها فصفعها صفعة أسقطتها أرضا، خرج طفلاها ورأيا الصفعة، وصديقتها تنظر إليها في انتصار وشماتة، فنهضت وهما يضحكان وأخرجت سكينا وانهالت به على زوجها، طعنته عشرات الطعنات، حاولت صديقتها الهرب، لكنها باغتتها بطعنة قاتلة، استمرت في طعنهما حتى حضرت الشرطة بناءً على اتصال الجيران بعد سماعهم لأصوات الصراخ وعند القبض عليها أخذت تردد: قتلت الخنازير، حيوانات قذرة متوحشة، كانوا يحاولون قتلي.

استمرت على تكرار تلك الجمل في التحقيقات، فتم تحويلها للمستشفى لنحدد هل مريضة أم مذنبة؟

قلت وقد جذبتني القصة: من الواضح أنها لم تكن طبيعية أثناء الجريمة، خاصة أنها مريضة بالاكتئاب

– قالت وهي تنهض من مقعدها: إذن فهي مجنونة لا تستحق الإعدام

جلست بالمقعد المقابل لي مباشرة ناظرة إلي منتظرة إجابتي

– قلت: لا أستطيع أن أعطي قرارا نهائيا قبل دراسة الحالة ومقابلتها في جلسات

– قالت: لكن رأيك المبدئي أنها مريضة، وأعتقد أنك توافقها في قتلهما

– قلت: بالطبع لا، لا يوجد ما يبرر قتل النفس، هذا مجرد رأي

– قالت في عصبية: كيف تكون متميزا ولا تعرف، أرجو أن تكون ذكيا، لن أتحمل خنزيرا آخر في حياتي، هل أنت مثلها؟ قالتها وهي تنظر للأريكة في آخر الغرفة، فنظرت رأيت قدما بشرية تظهر من خلف الأريكة وبقعة من الدم، تعرقت، حاولت الثبات وقلت: إذن أنت الحالة التي …

قاطعتني قائلة: نعم أنا، أنا قتلت الخنازير، ونهضت قاطعة الغرفة ذهابا وإيابا مزيحة خصلات شعرها للخلف في عصبية وقالت:

كانت هي أيضا خنزيرة، هي أيضا زوجة ثانية، واقتربت مني لدرجة شعرت بأنفاسها على وجهي وقالت: إن الخنازير تنتشر بسرعة، لابد من القضاء عليهم وإلا قضوا علينا، وابتعدت قائلة: إنهم كائنات قذرة من النوع البري المتوحش، كان يجب أن أحمي نفسي من هجومهم، وهي خنزيرة قذرة استحقت الموت بجدارة، كانت تعاملني بقسوة وتعذبني.

ابتلعت ريقي بصعوبة وهي تقترب أكثر من وجهي وقالت: هل أنت خنزير؟ قالتها وهي تبتسم

قلت: لا، أنا لست خنزيرا، وأنا أصدقك، علينا قتل الخنازير.

ابتعدت عني وأطلقت ضحكات هستيرية ثم بدأت تصرخ صرخات مدوية، عندها اندفع الممرضون للغرفة وأطبقوا عليها وهي تردد: قتلت الخنازير ثم أفلتت منهم وهاجمتني ممسكة برابطة عنقي وقالت: لنا لقاء آخر، فلا تكن خنزيرا.

أمسكها الممرضون مرة أخرى، وتوافد الأطباء والممرضون لداخل الغرفة يشهقون في فزع عند رؤية جثة المديرة، ويبادرون بسؤالي عن كل ما جرى بالغرفة وأنا أروى ما حدث، لكن ما كان يجول بخاطري ويشغل عقلي شيئا واحدا:

لا أريد أن أصبح خنزيرا، وصوتها يتردد في أذني: لا تكن خنزيرا.

زر الذهاب إلى الأعلى