أخبار مصر

ذنب لم يقترف

وقت النشر : 2022/05/20 01:46:16 PM

ذنب لم يُقترف
بقلم: سمر سعيد

 

نيران تلتهم كل ما يقابلها، خراطيم المياه

لا تقوى على إخمادها، أصوات مختلطة،

بعضها يبكي والآخر يدعو أن تخمد

النيران قبل أن تأكل كل الحي، أصوات

صارخة تصاحبها أصابع الاتهام نحوها،

أصفاد تكبل كفيها الصغيرين، قضبان من

نار تحاوطها داخل أخدود يبتلع جسدها

الضئيل، صرختها جعلت رفيقتها بالغرفة،

تنتفض فزعًا:

– ما بك؟!

– كابوس

مسدت على رأسها بحنان، ناولتها كوبا من

الماء علّها تهدأ، ويختفي جزعها:

– عليكِ زيارة طبيب نفسي، هذا الأمر

أصبح غمامة تحجب حياتكِ.

أومأت بالموافقة؛ فقد لاقت من هذا

الكابوس ما جعل النوم يهجرها لأيام

وأعوام، استجدته بأقراص منومة علّها

تنعم ببعض الراحة، إلا أنه كان يزيد جبال

صدرها، عيون الباندا صاحبت ملامحها،

غاصت عيناها داخل وجهها، شحبت

ملامحها كأن ملك الموت يزورها كل ليلة،

بدلت ملابسها مغادرة المنزل نحو مقهى

بجوار منزلها، ما إن رآها النادل حتى

أحضر لها فنجانا من القهوة كما اعتادت،

ظلت على هذه الحال حتى ظهرت خيوط

النهار الأولى.

 

بحثت كثيرا بين صفحات الدليل

التليفوني علّها تجد ضالتها، تفتحت زهور

بسمتها عندما وجدته، دونت هاتفه

والعنوان، مرت ساعات دوامها بشق

الأنفس داخل ذلك البوتيك الصغير الذي

آواها فيه صاحبه منذ أن وجدها صغيرة

بجوار الحائط، كانت تشبه القطة

الصغيرة، ملابسها رثة، تقتات فتات

الخبز، يقذفها أقرانها بالحجارة، والبعض

ينعتها بالجنون، حينما اقترب منها تكورت

داخل منامتها كالجنين، حاول بثها الأمان

والطمأنينة، رأت بعينيه حنان الأب،

دمعت عيناها حينما شعرت بدفء يديه

وهي تحنو عليها، سألها عن اسمها

وعنوانها، لكنها أجهشت بالبكاء، جسدها

ظل يرتعد كمن مسها تيار كهربائي، حملها

بين ذراعيه عائدًا لمنزله، ما إن رأتها

زوجته حتى شعرت ببعض الريبة، اقترب

منها يهدأ من ظنونها:

– أكرمي مثواها؛ عسى أن تنفعنا أو

نتخذها بنتا لنا فهي فتاة لا مأوى لها.

 

عاشت داخل منزله تارة في سعادة، تارة

في شقاء، ينعتها الجميع بالغريبة، كبرت

بذنب يؤرق ليلها. بعد عدة سنوات توفيت

أمها الروحية، حزنت عليها حزنا شديدا،

انتقلت للعيش مع صديقة لها، فهي تخشى

النيران، لا تستطيع خدمة نفسها.

توجهت نحو عيادة الطبيب الذي بحثت

عنه في الصباح، قابلتها فتاة تستقبل

المرضى، جلست أمامها تفرك يديها

بعضهما ببعض، ترفع عينيها كل دقيقة

نحو الباب، قدماها تتحرك بشكل عصبي

صعودا وهبوطا

حينما حضر الطبيب إلى عيادته لاحظها،

أطلق زر استدعاء الممرضة فدلفت له على

الفور، طلب منها إدخال تلك الفتاة ذات

عيون الباندا قبل أي كشف آخر

 

ولجت إلى غرفة الكشف وهي تفرك يديها،

طلب منها الجلوس

– ما علتكِ؟

انصاعت لأوامره ثم بدأت تقص عليه

قصتها:

– عشت عمري مع والدي ووالدتي بسعادة

وهناء، ذات ليلة شعرت ببعض الجوع،

طلبت من والدتي إعداد طعام لأجلي،

لكنها كانت منهكة بسبب حملها بأخ لي،

اقتربت من ذلك الموقد لتسخين رغيف

من الخبز وإعداد كوب من الشاي ظنا

مني أن والدتي سوف تسعد حينما تجدني

أستطيع الاعتماد على نفسي، فتحت

عيون الموقد، حملت بيدي علبة صغيرة

كانت تضعها والدتي بجواره بها بعض

الأعواد الخشبية، حاولت عدة مرات

استخدامها لإشعال الموقد، لا أعلم ما

حدث بعدها، كل ما أتذكره أن النيران

أكلت منزلنا.

لا زلت أسمع صرخات والدي ووالدتي من

انفجار أسطوانة الموقد، قذفا بي خارج

منزلنا، كانت النيران تلتهم شقتنا، هرولت

بعيدا عن منزلنا والدموع تملأ مقلتي،

هربت من لوم وجريمة قتل والدايّ

حاولت أن أتحسس أخبارهما، لكن منزلنا

كان أشبه بقطعة فحم.

وجدني رجل طيب القلب، عشت معه ببلد

مجاور، سألها الطبيب:

– هل زرتِ منزلكِ بعد تلك الحادثة؟!

أجابته بالنفي

– عليكِ كسر خوفكِ ومواجهة ماضيكِ

نظرت له بعيون جاحظة بعدما سمعت

طلبه، تركته ومضت دون أن تنبث ببنت

شفة، ساقتها قدماها نحو منزلها القديم،

لا زالت رائحة الحريق تملأ رئتيها، عادت

أدراجها تجر ذيول الذنب، لكن حدث ما

جعلها تتجمد في موضعها،

رجل على كرسي متحرك، جانب وجهه

مشوه، يبكي حاله وحال طفلته المفقودة،

فقد بصره كما فقد قدرته على الحركة.

اقتربت منه على استحياء تسأله عن

ابنته، أخبرها أنه فقدها كما فقد زوجته

في ليلة سوداء يحمل أثرها حتى الآن،

كانت كلماته تحرق وجنتيها، تمزق قلبها،

أخبرها أنه عانى الكثير، بحث عن صغيرته

عند كافة الجيران، زار كافة المشافي،

وأقسام الشرطة عله يعثر عليها، لكن بلا

فائدة.

ابيضت عيناه من الحزن على فراقها، فقد

حملت ذنبا لن تقوى عليه، لم تحتمل

كلماته وهو يشكو مرار تلك السنوات

بعدما أصبح وحيدا، فقد كل ما يملكه بين

ليلة وضحاها، كلماته نيزك ضرب أرض

قلبها فمزقه لأشلاء، هرولت بعيدا، لم

تستطع مواجهته؛ إنها سبب معاناته، إنها

ابنته الضائعة، إلا أنه همس لها بكلمة

جعلتها تتجمد

– أستشعر روحها فيكِ، هل تعرفين ابنتي،

أخبريها أنني أنتظرها

هرولت نحوه تقبل رأسه، تحتضنه:

– أنا هي، سامحني.

ذنب لم يقترف
ذنب لم يقترف

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى