أدبي

جزيرة اللانجوز

وقت النشر : 2022/03/30 03:49:12 PM

جزيرة اللانجوز

بقلم: نشوة أحمد علي

كان هناك مَلِكٌ يعدل بين رعيته، ينصر المظلوم، ويقوِّم الظالم، ولم يَجُع في عهده كائن، محبوب في مملكته، لكنه مرصودٌ من الممالك المحيطة، فالكلُّ في مملكته وخيراتها طامع.

كان الأمر طبيعيًّا وقتما كان محكومًا في تلك المملكة، لا حاكمًا، وكان على رأس المملكة وقتذاك حاكمٌ جائر، يُسخِّر الجميع لخدمته، ويستحوذ على جُلِّ إنتاج مدينته، تاركًا الفُتات للرعية، فَسَادَ الفقرُ والجهل.

إلى أن نزلت مدينتهم ” دورفان ” ملكة الخير والبراءة، بجناحيها الأبيضين الوضَّاءين الشَّفَّافيْن، وشعرها الزهري الطويل، كانت تمتلك من القوة ما يُمكِّنها من صنع المعجزات، فقررت استغلال طاقاتها في القضاء على الشر والفساد.

كانت تقوم بجولاتٍ حول الكواكب لتَفَقُّدِها، فلَفَتَ انتباهها تلك المملكة الجائر حاكمها، فقررت أن تنقذ الرعيَّة.

حاولت إثناءه عن جشعه وجبروته، لكنه أصرَّ مستكبرًا، مستنكرًا تهديداتها وقواها الخرافية، فبحثت من خلال بلُّورتها الذكيَّة عن شخصٍ مناسبٍ للحكم، فوجدت ” صفوان ” العالِم، المتواضع، المعلِّم، المحبوب من جميع مَنْ بالمدينة، والمنبوذ من الحاكم.

عزلت الظالم، وأقامت دولة العدل بحاكمٍ جديدٍ عادلٍ، فاستكمل مسيرته في تعليم أهل المدينة؛ إيمانًا منه أن العلم نور.

أهدت ” دورفان ” صفوان صندوقًا ذهبيًّا، به أربعة أشياء؛ أنبأته بألا يُفَرِّط فيهم، فقد تكون يومًا ما عونًا له أو لغيره.

وبعد أعوامٍ من الصبر والانتظار، وضعت زوجته ولدًا، بَهِيّ الطلعة، جميل المُحَيَّا، وما أن بَشَّرَته القابِلَة، حتى انطلق إلى زوجته يبارك لها ويطمئن على صحتها، فودَّعَتْه بابتسامتها المعهودة، وكان آخر لقاءٍ يجمعهما، على فراشٍ جمع بين مُسْتَقْبِلٍ للحياة ومُوَدِّعٍ لها.. كأن الأرض لن تتحمَّل دَبِيبَيْهما معًا.

قضى الأيام من بعد خليلته شريدًا، حزينًا، واضعًا ولده في حجره، آملا في أن يكمل مسيرته.. حتى نما إلى علمه تكاتُف جيرانه، وتآمرهم عليه، وشَنِّ هجوم عتيٍّ على مملكته بغَرَض الاستيلاء عليها، وتوزيعها تركةً بينهم، وليس هذا كلّ شيء، بل قَصَدوا أسْر ابنه الوحيد حتى لا ينتقم لوالده فيما بعد.

لم يجد بُدًّا من اللَّوْذِ بالفرار، فأودع ابنه أمانةً في عُنِقِ ” مرجان ” خادمه المخلص حتى لا يقع أسيرًا في يد الأعداء، إلى أن تستقر الأمور، ويُكْتَب لهم اللقاء ثانيةً.

وسرعان ما فَرَّ من القصر، لكنه أبدًا ما نَسِيَ هديَّة الملكة ”
دورفان “، فأخذ معه الصندوق الذهبي بمحتوياته الأربعة.

عاد الخادم إلى زوجته فَرِحًا، وزَفَّ إليها بشرى الطفل، فانتقلت إليها عَدْوَى البِشْر، وكيف لا، وهي العجوز العقيم؟!
وإذعانًا منهما لوصية الملك، اضطُّرا لمغادرة المدينة إلى حيث لا يعرفهما إنسان، كيلا يتسرَّب خبر مكان ابن الملك، فيدركه القوم الذين انتوَوا به السوء.

تربَّى ” نور” في دفء حضنهما، ولم يبخلا عليه بعطفهما، فكان يغترف من حُبِّهما ما يشاء، وكَيْفما يشاء، كما تعلم كلَّ العلوم على يد علماء القرية الأجِلَّاء، كان ذكيًّا، نابغًا كوالدِه الملك ” صفوان “، كما كان هذا محل اندهاش الجميع؛ فكيف لابن هذا الرجل الفقير أن يكون عالما، بل ويفوق علمُه وذكاؤه معلميه؟!

مَرَّتْ من الأعوام عشرون، فَقَدَ ” نور ” أبويه، لكنه ظلَّ في القرية إلى أن أكمل تعليم كل مَنْ فيها، سالِكًا دَرْب والده الملك، وهو أن ينشر العلم في كل مكان، لذلك كان يُطلق عليه أهل القرية اسم ” حكيم الزمان “.

استقلَّ قارب ” مرجان” الصغير، واستعرض البحر الأرجواني، وسار في طريقه إلى أن وصل ضفَّته الأخرى المواجهة للتي تطلُّ عليها قريته.
وجد أناسا يصطادون، وآخرين يتسلقون الأشجار وبالثمار يعودون، وكثير من الأطفال يلهون ويلعبون.

ألقى التحية، فلم يُجِبْه أحد، أعاد إلقاءها صائحًا، فلا مجيب، كرَّر نداءه، قائلا:
– غريب يطمع في كرمكم.

أجاب تحيته رجلٌ عجوزٌ كان يجلس على الشاطئ، وفي يده سمكة، جاد البحر بها عليه، وأشار إليه بأن يتبعه.

وصلا إلى بيتٍ قديمٍ، لكنه نظيف، ينبئ عن رُقِيِّ ساكنيه، واكتشف فيما بعد، أن هذا الرجل هو كلُّ ساكنيه.
استضافه ذاك الذي يبدو من ملامحه وطريقته أنه غريبٌ مثله، بل وفاض عليه بِكَرَمِه ببعضٍ من العلوم واللغات التي يتقنها.
كما عرف منه أنه في مدينة البُكْم، التي اكتسبت هذا الاسم فقط منذ عشرين عامًا، حينما زارتهم ” دورفان”، قاصدةً تطهير البلاد من جميع البذاءات؛ حيث اشتهر أهلها بسلاطة اللسان، ناصَحَتْهم، لكن لا مجيب، فلم تجد بُدًّا من عقابهم، وكان العقاب تعويذةً أطلقتها، تصيب كل من ينطق لسانه ببذاءةٍ، أو يُلْحِق بجاره أذى، ويصير أبْكَمًا، إلى أن يأتي من يَفُكّ الطلْسم، ويحلّ اللغز، وحددت ماهيته في كتابٍ أخْفته.

وعلَّمه أيضا لغة التفاهم مع سكان المدينة التي صار أغلبهم بُكْمًا.
وما هي إلا أيام قلائل، حتى مات الرجل الغريب، تاركًا له إرثا من الكتب، والجدران المعلق عليها أشياء غريبة.

هبطت ” ريدوف” ابنة الملكة ” دورفان” بفرستها ” روسفانا” ذات الذيل الطويل، والجناحين الأخضرين على ضفة البحر الأرجواني، فلم تجد ابنتها ” ريمونارف” بانتظارها كما اتفقتا.. قررت التجول في المدينة بصحبة ” روسفانا”، وظلا يستمتعان بجبال الزهور الملونة، ذات الرائحة العطرة، إلى أن وصلا بيت ” حكيم الزمان” الذي كان يداوي أهل المدينة ويعلمهم، ولا تخلو داره منهم.

شرعت في قصِّ القصة على مسامعه، فعرف أنها ابنة ملكة الخير والبراءة التي عاقبت أهل المدينة، وقد جاءت بأمر من والدتها لتفك الطلسم بمساعدة ابنتها ” ريمونارف”
وحينئذٍ تذكَّرتها، فنظرت خلال بلُّورتها، لتجدها ساقطةً على الأرض بين نباتاتٍ غريبة تتأوَّه من الألم، وعلى كتفها ” مودو” طائرها الأزرق الودود الصغير، ذو الجناحين السماويين الرقيقيْن يحاول مساعدتها، والترويح عنها.

جزعت ” ريدوف” لمرآى ابنتها على تلك الحالة، فطلبت من ” حكيم الزمان” اصطحابها لمداواة ابنتها.
وسرعان ما اعتلى كل منهما إحدى جناحي ” روسفانا” التي انطلقت مهتديةً بالبلُّورة المسحورة، حتى وصلت إلى جزيرةٍ غريبةٍ في نهاية البحر الأرجواني.

قام ” حكيم الزمان” بجبر الكسر الذي أصاب قدم ” ريمونارف”، والتي كُسِرَت بينما كانت تُحَلِّق فوق البحر للحاق بوالدتها.

وبينما ” ريدوف” تطمئن على حال ابنتها، و” نور” يختلس النظرات للأميرة التي سرعان ما دقَّ قلبه من أجلها؛ تلك الصغيرة الرائعة الجمال بجناحيها الورديين، وشعرها الثلجي الطويل، المنسدل خلف ظهرها، وكان يغضُّ طرفه كلما استرقت هي النظر إليه، ذلك الشخص الذي سلب لُبَّها.

وبينما هو يجول ببصره في المكان من حوله، ويحادثه ” مودو” الصديق الصغير الذي انتبه إلى مشاعرهما، حتى استرعى انتباه ” نور” النبات الغريب المنزرع فوق أرض هذه الجزيرة، فانحنى والتقط ثمرةً، واندهش لما فتح قشرتها الزرقاء الطويلة الرقيقة، فوجد بها ثمرةً حمراء تشبه اللسان إلى حدٍّ بعيد، فصاح، قائلا:
– إنه نبات ” اللانجوز”، وهذه هي جزيرة ” اللانجوز” المفقودة.. إنه النبات الذي يمكنه إعادة النطق لمدينة البُكْم، كما أنبأني العجوز قبل موته بليلةٍ واحدة.

تهللت أسارير ” ريدوف” وابنتها، وكذلك ” مودو” و” روسفانا” لِمَا سمعوه لِتَوِّهِم، فقاطعته ” ريدوف”، قائلةً:
– هذا هو النبات المنشود لفَكِّ الطلسم، علينا جمع هذه الثمار، ثم البحث عن الكتاب المدفون الذي يحتوي على تعويذة فك الطلسم، والتي ربطته أمي بقدمي ” ريمونارف”، فبمجرد أن تطأ بقدميها أرض مدينة البُكْم، سيهديانها إلى مكانه،
لكنها تجهَّمَت، وقالت:
– ستُؤَجَّلُ مهمتنا إلى أن تتمكن ” ريمونارف” من السير على قدميْها، وسيستغرق هذا وقتًا طويلًا، كما أننا مأمورون بعدم مغادرة المدينة إلا بعد إتمام مهمتنا.

استضافهم ” نور” في بيته القديم، وتوطدت علاقته بهم، وزاد شغفه وحبه لـ” ريمونارف” التي بادلته المشاعر ذاتها، واتفقا على الزواج بمجرد انتهاء مهمتهم.

لاح الصباح بشمسه البديعة وسمائه الصافية، وشعرت ” ريمونارف” بتحسُّنٍ واضح في قدمها المصابة، فاصطحبت ” مودو” وقررت التجول في المدينة، ريْثَما يستيقظ الباقون، وما أن خَطَتْ عدة خطوات خارج البيت حتى شعرت بشيءٍ يتحرك تحت قدميْها، فانحنت لالتقاطه، فإذا به كتابٌ يلمع، التقطته وأسرعت به إلى أمها، التي عرفته على الفور، فهو كتاب فك الطلسم حسب وصف جدتها.
لكن اللغة التي كُتِبَ بها لم تعرفها، ناولته لـ” حكيم الزمان” الذي نطق بالترجمة على الفور، فقد كانت إحدى اللغات التي تعلَّمَها قديمًا.
تقول التعويذة:
” بحقِّ النَّجْمة ذات الأذرع الثمانية، والهلال النائم، والدِّرْع والصولجان، أن يعود المُعَاقَب لعهْده الذي كان، على ألَّا ينطِق إلا بِحُسْنِ البيان”

وكان على الأبكم المرصود مضغ ثمرة ” اللانجوز”، بينما يقرأ التعويذة عليه ملكٌ، مات أبوه الملك بين يديه، شريطة أن يكون من ساكني مدينة البكم.

استوقفهم ما جاء في التعويذة من أشياء هي بالفعل مُعَلَّقة على الحائط إلى جوارهم، فهاك درعٌ، وهذا هلالٌ نائم، وتلك نجمةٌ ثُمانية، وهناك صولجان.

– هل كان للعجوز الغريب دَخْلٌ في تلك التعويذة؟ ثم من أين لهم بملك مات أبوه الملك بين يديه، وليس هذا فحسْب، بل والأدهى أن يكون من ساكني مدينة البُكْم؟

قرروا إخضاع القليلين الذين صانوا ألسنتهم، فلم يصبهم ما أصاب القوم.
نادوا في المدينة بأن يحضر جميع الناطقين، فجاءوا بواحدٍ من البُكْم، وأعطوه ثمرة ” اللانجوز” وأمروه بِمَضْغِها، ففعل، وبينما ينطق ” نور” بالتعويذة، ليكررها وراءه الشخص الناطق، نطق الأبكم قبل أن يكرر الرجل وراءه.

تعجَّب الجميع، وأدرك ” نور” أن العجوز الذي قضى معه أيامًا معدودةً قبل موته بين يديه، لم يكن إلا والده الملك ” صفوان” الذي أخبره عنه أبواه.

تهلَّل أهل المدينة وصار الاحتفال احتفالين؛ عودة الكلام لألسنتهم بعد أن وَعَوا الدرس جيدًا، وثانيهما زواج ” نور” و” ريمونارف” التي قررت وأمها أن تكون جولتهما القادمة إلى مملكة ” نور” ليعود الحق إلى ذويه، ويستعيد مُلْكَه ومُلْكَ أبيه..

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى