أدبي

رضيع يتألم

وقت النشر : 2022/05/29 08:51:56 PM

رضيع يتألم

بقلم: مروة جمال مهدي

 

في إحدى الصباحات المشرقة قرر والي

المدينة تيموس الخروج لنزهة في أرجاء

المدينة عازمًا على اختيار أرضٍ مناسبة؛

يبني بها قصره الجديد.

تناول طعامه مستمتعًا بمذاقه اللذيذ، ما

إن أكمل تناول الطعام، تألق جماله في

ثيابه المزدحمة باللآلئ، وفاح عطره

الزاكي محتضنًا جسده، تأبط الوالي

حذاءه متهيئًا للخروج والحراس

ينتظرونه عند بوابة قصره المشيد.

خرج الوالي مع حراسه، أثناء تجوله في

المدينة رغب بزيارة سوقها المملوء

بالنّاس الذين دبّت في نفوسهم حرارة

العمل، لفت نظره تجمّع النّاس عند أحد

الباعة كأنّهم خلايا نحلٍ، راوده الفضول

لمعرفة السبب، أردف لحراسه متعجبًا:

– ما سبب هذا الجمع؟

أراد أحد حراسه التقرب من الوالي؛ ذهب

على عجلة ليرى ما الأمر، إذا به يجد

فلاحًا يُدعى زاكي، في مقتبل العمر، من

ذوي القلوب النظيفة،

والنفوس الزكية، ينفخ صدره قوة

الشباب، يملك منطقا عذبًا؛ جعل الجميع

يتوافدون إليه كبئرٍ وحيدةٍ في قريةٍ آهلةٍ

بالسكان، يبيع خضرواته وفواكهه

الطازجة التي تجعل من اللعاب يسيل عند

رؤيتها.

عاد الحارس مسرعًا ليخبر مولاه بما وجد،

ثم قال باستهانة:

– مولاي، إنه فلاح لا أكثر.

عاد الوالي إلى قصره، عندما لبس الليل

رداءه الأسود دون أن يهتدي لشيء!

في حديقة القصر المليئة بأزهارٍ تتمايل

يمنة ويسرة، كأنها ترقص لقدوم الصباح،

بدأ الوالي يومه جالسًا على كرسيٍّ

محفوف بالورود، يرتشف قهوته،

مستسلمًا للتفكير، نظر إلى حارسه نظرة

تعبّر عن مدى تعجبه، ثم أردف:

– ما أخبار زاكي؟ أما زال النّاس يجتمعون

حوله بغزارة؟

تبادر إلى ذهن الحارس اهتمام الوالي

بالأمر، همس في أذنه بهدوء:

– نعم مولاي، ما زال حاله كما شهدته ذلك

اليوم.

بقي الوالي شارد الذهن، ثم قال لحارسه:

– أُريد منك أن تتبع أثره وتعرف أين

يسكن لنرى ما السر وراء ما يحدث..

في محاذرة شديدة، وتلصص، تتبع

الحارس خطوات زاكي بعد أن انتهى من

عمله، رأى زاكي يدخل منزلًا صغيرًا من

سعف النخيل، لا يقي ساكنيه حر الصيف

أو برد الشتاء، من نافذة المنزل الصغيرة،

رأى الحارس أنه منزل لا يحتوي من

الأثاث غير كرسي خشبي تسنده الجدارن؛

كي لا يقع أرضًا، يريح به جسده بعد يوم

شاق، إضافة لأوانٍ قديمة، ومصباح

يستضيء به.

عاد الحارس للقصر محدثًا الوالي بما رأته

عيناه، تسلل الاستغراب إلى أعماق

الوالي، ظل يتمتم في نفسه:

_فلاح كهذا، كيف له أن يحظى بذاك

الجمع؟

خرج الوالي عازمًا على تقصي الأمر

بنفسه، أمر الجميع بأن يذهبوا معه إلى

منزل زاكي.

وصل الجميع، شاهدوا ما شاهد الحارس

دون أي اختلاف!

أراد الوالي معرفة السر، أمر بمراقبة

الأماكن المجاورة للمنزل، بعد ساعاتٍ من

البحث وجدوا الكنز الدفين!

تلك الأرض الرحبة، ذات الأشجار الكثيفة

السامقة، الغنية بالثمار، ذاك المنظر الباهر

لأشعة الشمس الذهبية المنحدرة على

أشجارها، لتفوح تلك الروائح الزكية من

الأغصان، ذاك النهر الجاري، الذي

اجتمعت فوقه سحب بيضاء، امتزج

بياضها مع زرقة ماء النهر لتعكس لونًا

فضيًا يسلب العقل، ويُمتع عيون الناظرين

إليه..

أرضٌ، تُجلي عن القلب همومه، وينعش

الفؤاد نسيمها العليل..

هذا الجمال جعل من الوالي يلوح بيده:

_هذه الأرض هي ما أبحث عنه، ايتوني

بالفلاح زاكي في الحال.

ذهب حارسان لإحضاره، إذا بزاكي يُطلق

زفرات ملتهبة عندما سلك به الحارسان

نفس الطريق المؤدية إلى منزله.

سأل زاكي الحارسين والتوتر يعتريه:

_ إلى أين تذهبان بي؟

أجابا بلا اكتراث:

_ اخرس، هذا ليس من شأنك، كُف عن

الثرثرة وتابع سيركَ بهدوء.

لم يقلع زاكي عن سؤالهما حتى طرقت

شتائمهما سمعه، كلما دنت خطواتهم من

منزله؛ تزداد دقات قلبه، ها هما يصلان به

أخيرا..

اقترب الوالي من زاكي ملاطفًا كتفه

برفق، أخذ يسأله بمكر:

_أحتاج أرضًا واسعة فيها كل معالم

الجمال الربّاني، هل تعلم أرضًا بهذه

السمات؟

عقد الخوف لسان زاكي، نظر إلى الوالي

في استكانة وضعف:

_ لا أعلم _يا .. مولاي_ أنصحك بألاّ تهدر

وقتك في البحث هنا، لن تجد ما تبحث

عنه في هذه المنطقة.

رمق الوالي زاكي بنظرة شزراء، وأردف

بصوت جهير طليق:

– ويحك أتكذب علي وأنا مولاك؟ وتلك

الجنة التي خلف منزلك، ماذا عنها؟

اشتد احتقان وجه زاكي، توالى ارتجاف

أعضائه،

انحنى على يد الوالي باكيًا:

– أتوسل إليك _ يا مولاي_ دعها، لا تسلبها

مني، فإنّها آخر ما تركه لي والدي المتوفى

منذ أعوام، بها قوت يومي، ومسكني..

استمر الوالي بالحديث، همّ زاكي بالكلام

مرارًا، مانعًا له حياؤه من الوالي، لكنه لم

يطق سكوتًا على ما تفوه به الوالي

بعبارته الأخيرة التي جعلت الكدر يطفئ

نور السرور في عيني زاكي، جرى بينهما

حديث طويل كان منتهاه إعطاء زاكي

أموالًا كثيرة مقابل الأرض، لكن زاكي

رفض ذلك!

غادر الوالي وملامح الغضب تبدو عليه،

في صباح اليوم التالي، فُوجئ زاكي بأمر

طرده خارج المدينة، ذهب متوسلًا

لأصدقائه الفلاحين بُغية المساعدة

والعون، لكنه وجدهم على شاكلته،

يشكون مما يشكو وإن لم تنبس أفواههم

بالكلام. اكتسحهم الكسل بعد أن كانوا

بالأمس يملكون نشاطًا وحيوية، عجلت

إليهم الشيخوخة، وأضحوا منهكين،

تثاقلت عليهم هموم المعيشة، ليس منهم

أحد إلا وقد عبث به

ظلم الوالي مسببًا له إملاقًا قاتلا ..

عاد زاكي إلى منزله بحال كسير، آخذًا

أمتعته ودموعه كسيل يجرف كل شيء

أمامه، لم يكن له إلا أن يستجيب لأمر

الوالي، فلا معين له عليه، رحل دون أن

يودّع أرضه متلظيًا بنيران الرحيل.

مرت الأيام بسرعة، أمر الوالي باجتثاث

كل نباتات تلك الأرض والبدء بالبناء، بعد

أن غادر زاكي، خيّم الحزن على أرجاء

السوق.

سار زاكي بعيدًا، نحو طريق مجهول،

وبعد عناء ومشقة وصل منطقة صغيرة

يعيشها سكان فقراء، يغلبهم الخمول، لا

يحُركهم سوى الجوع. استدعى زاكي

رجلا عجوزًا يُدعى شعيب، قدم له الحساء

وما أن اطمأن زاكي له حتى قصّ عليه

حكايته، ربّت شعيب على ظهر زاكي

مستعطفًا:

_أي بني، لا تخف، سأجعل لك من بيتي

مسكنًا، نتقاسم الزاد والماء معًا.

شعر زاكي بالارتياح بعض الشيء، قضى

أيامه الأولى مستلقيًا على السرير يجتاحه

الحزن والكآبة، بليد ساكن الظاهر

والباطن، يراقب الناس من نافذة الغرفة،

وهو بمعزل عن الحياة جميعها!

ثم ماذا؟ راوده هذا السؤال كثيرًا.

حدث في الماء الآسن حياة، كأنما ألقت

الروح فيها من جديد، وقتذاك هرع زاكي

إلى الأرض بعدما تذكر حديث شعيب

عنها، حين وصل إليها إذا به يراها كما

وُصفت له!

أرضٌ بلغت شفا التدهور، نباتاتها معظمها

ذابلة، شمّر زاكي ساعديه بادئًا بالعمل

بنشاط وحيوية، مستمرًا على هذا النحو

حتى اكتست الأرض ثوبها الأخضر

وأضحت جنة يُستطاب النظر إليها..

وفي المكان الآخر، قصرٌ فيه من أسباب

الراحة والرخاء ما يجعل الجميع يحلم

بامتلاكه،

هجره الوالي؛ لِما أهداه من ضيقٍ رغم

اتساعه.

 

 

 

ذات صلة
رضيع يتألم
رضيع يتألم

 

 

 

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى