أدبيمقالات متنوعة

التاريخ ظالم ومظلوم

من وحي يوميات عباس محمود العقاد

وقت النشر : 2023/09/29 09:07:20 PM

التاريخ ظالم ومظلوم

من وحي يوميات عباس محمود العقاد

بقلم: شيماء عبد المقصود

ميزانٌ غيرُ عادل هو ذاك الميزان الذي لا يُقدر الناس بقدر سعيهم واجتهادهم، ويتساوى على كفَّتيهِ الصواب بالخطأ، والأعمى يتساوى بالبصير، ويحلّ الباطل محل الحق، ويستوي عليه الذين يعملون بالذين لا يعملون.

وما بعد ذلك مجرد تحصيل حاصل لواقعٍ قد حُسمت فيه المعركة لصالح خاصةً من التافهين هم من يتحكمون في – رمانة الميزان- فكلما ازدادوا في الإسفاف والابتذال كلما ازدادت جماهيريتهم وشهرتهم، وللأسف نحن من اعتبرنا هذه السخافة والبذاءة أسلوب حياة لا يمكن الاستغناء عنه.

فهناك سؤال يغلب تفكيري دائمًا ويستطرق ذهني من آنٍ لأخر، وكلَّما فررت من تحت قبضتهِ يأتي ويراودني بعد قراءةِ كلِّ مقال، ولو كان عندي علم بإجابته لما تركته ينهش في أم رأسي هكذا ..!

ألا وهو هل سياتي اليوم الذي سيسجل فيه التاريخ على جدرانه هؤلاء التافهين، ويتساووا رأسًا برأس بعظمائه أبدَ الآبدين ؟!، وهل سيأتى اليوم الذي سيستمد منهم كلُّ الأجيالِ القادمة الحضارة الثقافية، والفكرية، والعلمية التي نحن في صددها الآن مهددين بالانقراض..؟!

أم سنكتفي بأن نقول بيننا وبين أنفسنا-نحن السابقون وأنتم اللاحقون- الحقيقة ضائعة كإبرةٍ في كومة قش، وعلى المتضرر البحث عنها والعثور عليها وإن وُجد..!!

أنا لا أدعي الحكمة ولا أرتدي ثوب المثالية، لكن دعونا نفكر بصوت عالٍ في ذاك الوضع الحالي علَّ أحد يرد على سؤالي، وإما أن نقصر المسافات ونطوي القرطاس ولنعتزل القلم الحر، ولنترك محراب الكلمة مفتوح على مصراعيه من جهةٍ لكُلِّ من سولت لهم أنفسهم أنَّهم هم القادرون على أن يُمسكوا بتلابيبِ الكلمات دون غيرهم، ولو صادفك وإن قرأت لهم من باب الإطلاع لوجدت نفسك كما دخلت كما خرجت.

المعنى مفقود والحصيلة الفكرية لا تُسمن ولا تغني من جوع، ومن ثم -صفر فكري- لا يُحسد عليه، بل بالعكس تخرج مما قرأت له وأنتَ مشفقٌ عليه، بل ومن الأحرى أن نشفق على أنفسنا جميعًا أنه كيف وصل بنا الحال لهذا المنحدر الثقافي ؟؟!!

ومن جهة أخرى لهؤلاء المستفيدين من سرقة مجهود وتعب نُسب لغير أصحابه كسائرِ المرتزقة على وسائلِ التواصل الإجتماعي، ثم نأتي ونقول بعد ذلك: بلى وآأسفاه!!

لقد قطعتُ عهدًا على نفسي قبل سابق بألَّا أفتح بابًا للنقاشِ في هذه النقطة بالأخص وكلي قناعة “إنَّ الله لا يُغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “، ولكي لا يُؤخذ كلامي على محمل التسويف والتحامل بغير هدف، لكن عندما قرأت مقال العقاد “التاريخ ظالم ومظلوم” رأيتُ أنَّنا هنا وبعد مرور كل تلك السنوات نحن في وادٍ آخر غير واديه.

ذاك الذي ألزم فيه نفسه بعدم السكوت عن ما نُسب إليه من ادعاءات كاذبة، ونادى بأنَّ من حق كل إنسان أن يُصحح تاريخه قبل موته، هذا لأنَّ التاريخ سهل عليه أن -يسجل سير الموتى، لكن من الصعب عليه أن يكتب عن الأحياء -.

يقول العقاد وقد أُشيع عن شخصه ما تأبى عليه الآنفة أن يعني بتكذيبه وما لم يعرض له بالتصحيح إلَّا بعد كتابته بعشراتِ السنين: “معذورًا من هم في المستقبل من يزعم أن العقاد تزوج وأهملَ زوجته فخرجت تتسكع في الحانات والمواخير، لأنَّهُ لا يعود إلى منزله قبل الصبح ولكن…معذورًا
من يزعم أنه ابن”نجيبة الزنجية ” الغسالة في بلاد النوبة، وقد صدَّق هذا “التاريخ ” أديب حسن القصد وعلل به حرارة العاطفة وحدة الغضب في نفس العقاد ولكن..معذورًا من يصدق أنه كائن غريب يموت من الجوع ويملأ جيبه أو جيوبه جميعًا بعشرة آلاف جنيه…لأنهم قالوا ذاك يوم خرج من الوفد وحمل على الوزارة النسيمية فشمتوا به لأنَّهُ سيموتُ من الجوعِ وشهروا به لأنَّهُ قبض عشرة آلاف جنيه. “

كتبَ العقاد هذه الكلمات في سطورٍ تحمل أصعب ما يتحمله
الإنسان وهو ينفي عن نفسه كثيرًا من الحماقاتِ والأكاذيب التي كانت منسوبةً إليه في ذاك الوقت دون وجه حق، وهو العقاد الذي قطع مشوارًا طويلًا لإعلاءِ كلمة الحق، وسعيه المتفاني لجمع شمل الكلمة تحت لواء “الفكر العربي” وإذ بأنصار تلك الإدعاءات الكاذبة أن يُفرغوا أجربتهم بما تحويه من ألاعيبٍ بهلوانيةٍ وشيطانيةٍ لتشويه صورته.. كي يسجل التاريخ ويقول كلمته الأخيرة في صحيفته بما يشوب ويروب بسمعته بعد موته..

ثم تتوالى الأجيال وما من أحد يعلم أن هذا التاربخ ملفق لصاحبه ودسيسة كانت حينها لأغراض سياسية دنيئة بهدف إبعاده عن طريقهم، ذاك لأنَّهُ أبى السكوت عن قولِ الحقِّ في مواجهةِ تلك الوزارة، وقد قام بالفعل لإحباط محاولتهم لتغيير الدستور.
والشرح يطول في هذا الموضوع الذي كتب فيه العقاد سلسلة يوميات متتالية في كتابه”يوميات٣” وهو المسؤول عن ذمته التاريخية أمام الله وأمام الأعقاب القادمة .

“لا كفى..!!” مقالٌ أخر قرأتهُ في كتاب “قبل أن يصمت القلم” للكاتب عبد الرحمن الشرقاوي رحمة الله عليه، وكنت ولأول مرة اقرأ له، ومن خلال مقالاته وجدت أن كان شغله الشاغل هو أيضًا الفكر العربي، وبناء قاعدة فكرية وثقافية تكون داعمًا للأجيال القادمة من خطرِ الإملاق الثقافي والحضاري، ووجه في هذا المقال عدة نداءات لكل الكُتاب العرب بأن يعتزوا بأقلامهم، وينتقوا كل كلمة ينثروها على صفحاتهم البيضاء، فالكلمة التي يُحركها دافع الإنتقام والتشهير تكون كما “النكتة السوداء ” في صحيفة تاريخ الكاتب، ومن هذا المنطلق عرض قضية التشهير التي تورط فيها الكاتب محمد حسين هيكل والكاتب يوسف إدريس، وهما كاتبان غنيان عن التعريف في مصر بل والوطن العربي أجمع.

فأثناء ما كانت مصر تحتفل بالجلاء عن سيناء وإذ بهما يقذفان بقذائفِ التشهير على ذكرى السادات، وكأنَّهُ اغتيالٌ جديد له..!!
قال عبدالرحمن الشرقاوي:” اغتالوا حياته في ٦ أكتوبر عيد انتصاره الحربي، وفي ٢٥ أبريل عيد انتصاره السلمي يحاولون اغتيال سمعته..!!”

كان الأحرى به في ذاك الوقت أن يندد بفعلتهما ويُشهر بهما هو الأخر كما فعلوا لكن، هنا يظهر جوهر الكاتب وتأصله بقلمه، فتارةً يشد اللجام ويطيح بهما لسوء فعلتهما، وتارة يُرخي اللجام ويُذكرُ هيكل بالأخص وبأسلوب هين لين لا يحملُ لشخصه أيّ تهكُم، بأنَّهُ كان أحد الذين أيدوا السادات في أولِ ولايته؛ وهو أحد مهندسي ١٥ مايو،وكان متحمسًا لترشيح السادات رئيسًا بعد عبد الناصر، وغامرَ بحياته ليؤيد السادات يوم ١٥ مايو سنة ١٩٧١ .

كل ما شدَّ انتباهي أكثر هي تلك الكلمات التي كانت بمثابة – الخلاصة- والتي وجهها لهيكل وختم بها مقاله حيث قال:” وهو يستطيع في هدوء أن يعاود النظر في كتابه، وإن يعتذر إلى الله والناس عما تعمد قلبه في إساءة..أما الأخطاء الأخرى التي تمس-جوهر التحليل التاريخي- فأنا أدعو المؤرخين والمفكرين عندنا إلى مناقشته من هذه الأخطاء.”
ثم قال أيضًا:”وليكتب من جديد تاريخًا حقيقيًا للرجل..يتناوله التاريخ بما ينبغي من الحيدة والموضوعية “

وهنا لن يبقى إلا أن أقول..إن التاريخ في حد ذاته ما هو إلا-كلمة- لكنها ذو حدين إمّّا أن ترفع لأعلى عليين أو تنسف لأسفل سافلين وما بينهما سيرة لمشوار طويل قطعه صاحبه ظن فيه الخير للأعقاب القادمة، وأن ما غرسه من عصارة فكره وما تركه من نتاج علمه سيكون مدخرًا للمستقبل، وحصاد خيرٍ ونبراس نور يهتدوا به..فسلام على أصحاب تلك المبادئ العظيمة ألف سلام .

—————————————
(الوزارة النسيمية )
نسبة إلى توفيق نسيم الذي كان حينها يرأس الوزارة، وتوالت حملات العقاد لسقوط تلك الوزارة، رغم تأييد الإنجليز الشديد لها ومجلس الأمة، حتى أنَّ النحاس باشا وأعضاء الوفد اجتمعوا لمحاكمته في جلسة.
حينها وقف العقاد في وجه النحاس وقال له :”أنت زعيم الأمة لأنَّ هؤلاء انتخبوك، ولكنني لست كاتبًا بالانتخاب ورفع قلمه إلى حيث ينبغي أن يرفع قائلا: قلمي هذا الذي تستضعفه سيسقط لك الوزارة النسيمية قبل أن ينبري، وسترى عما قريب، وبالفعل سقطت الوزارة قبل أن ينبري قلم العقاد”.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى