أدبي

ركام

وقت النشر : 2021/12/08 05:05:09 PM

ركام
قصة قصيرة
بقلم: نعمة رشاد حسن

المكان: الإسكندرية
التاريخ: يوم سبت ما منتصف التسعينات
الزمان: العاشرة صباحا

جلست إلى شباكها الخشبي الذي أصابه الزمن بعطنه، وقد بدأ صخب الحياة المعتاد يغزو الشارع العتيق، تناهى إلى مسمعها مزيج غريب من أصوات الباعة والمارة، مختلطة بصوت المنشاوي وعبد الوهاب، الراديو الذي يذيع نشرة الأخبار، والمقهى الذي أدار شريطا مزعجا لأحد المطربين الشبان.

زفرت بملل، ثم أطلقت عينيها للسماء التي اختفى منها السحاب تماما كما هو حال أغسطس، لتطل جارتها بهمومها وكوب من الشاي البارد من شرفتها التي علاها كمٌّ غير عادي من خيوط العنكبوت.
التفتت إليها وسألتها متلطفة عن آخر الأخبار:
– ليس هناك من جديد؟
تقول بلا اهتمام، فابنها الوحيد قد ماتت أخباره فى الغربة، وها هو العام العاشر يهل، ووليدها الذي ذهب لبلاد النفط ليبني الدور الثاني ليتزوج ابنة عمته لم يعد بعد!
سكتت في حزن، وجارتها تعيد الكوب الذي لم تشرب منه شيئا تقريبا، وأكملت قائلة:
– لقد صار ابن ابنة عمته في الصف الثاني الابتدائي.
سكتت قليلا ثم أردفت:
– لا ألومها، يشهد الله فقد انتظرته طويلا و..

ذات صلة

فجأة يعلو صوت فرملة قوية لإحدى العربات، شهقت بفزع، بينما يعدو أحد الأطفال غير عابئ، وصاحب العربة المرتعب لا يكف عن سبِّه وسبِّ أهله وجدود جدوده قبل أن يتدخل أحد المارة، ويتطوع بإعادة الرجل لسيارته، لينطلق إلى حال سبيله.
– يا الله.. الحمد لله.
تقول لجارتها قبل أن تبتسم الأخيرة لها مستأذنة إياها للعودة لأعمالها المنزلية التي لا تنتهي على حد قولها.
عادت تتابع ما يدور بالشارع المكتظ، لمحت جارا لهم منذ الصغر..
– يا الله! لقد أبيضَّ شعره تماما.
قالت لنفسها، كان الرجل موظفا بوزارة لا يعلم أحد وظيفة لها، له طفلان صارا اليوم رجلين، أحدهما خرج مستأنسا بصحبة وما عاد حتى اليوم، وإن عادت الصحبة.
سأل عنه الرجل حتى استيقن موت الذكرى، فتناسى ومضى يحمل همه، لا يسأل إلا الله المعونة، أما الآخر فتزوج مؤخرا بعد سنوات لا تذكرها من خِطبة إحداهن.
– هكذا يكون الحب..
ابتسمت بمرارة..
لم تستمر الزيجة طويلا على كل حال، علمت من أمه أنها لم تحتمل كل هذا الفقر، فخرجت بحقيبة ملابسها غير آسفة!
لمحت أحدهم يحث الخطى سريعًا إثر امرأة ما؛ ليست من أهل الحى تعبر الطريق، شهقت ثانية وقد رأته يلمسها ويضحك هازئا قبل أن يختفي بالزحام.
– أيها القذر.
صرخت مُحتجَّة، بينما أكملت المرأة طريقها ولم تُعقِّب!
دمعت عيناها للحظة قبل أن تستسلم لتيار العابرين.

على الرصيف المقابل ترى بضعة أطفال يقذفون المارة بسيل لا يتوقف من الشتائم.
– جيل لم يعرف التربية.
قالها صاحب الدكان المقابل ناهرا إياهم، بينما يتبادل السباب مع أحد زبائنه حول قيمة أحد المشتريات.

ابتسمت للمفارقة، بينما تعلقت عيناها بالناصية القريبة.
– هذا هو ميعادها..
تقول بقلق، فيما فتاة في عقدها الثالث قد وقفت وحيدة تنتظر كما اعتادت يوميا منذ واعدها.
همست لنفسها بحزن:
– ولكنه لم يأت قط.
ظلت الفتاة في وقفتها التائهة حتى اقترب مراهق منها وهمس في أذنها بكلمة ما، فانفجرت باكية، وفرت هاربة وسط قهقات الصبية القاسية.
تعرف أنها ستعود غدا لتتلقى ذات العقاب، وكأنها قد لعنت به بغير قصد.
أما الأسوأ حقا، فقد كان جارتها العروس التي كانت تتلقى تقريعا مُرًّا من أم زوجها التي تراها شيطانا أتى ليخطف فلذة كبدها، الغريب أن الرجل الذي تدور حوله المعارك يوميا ليس سوى كهل تعدى الخمسين، مصاب بالسكر وأمراض أخرى، تزوج بعد سنوات طويلة من محاولات الحب الفاشلة بسبب تدخلات أمه التي لا تنتهي.

كان الحر على أشده، والظهيرة قد حلَّت، والشمس في كبد السماء، وقد بدا الحي كأنما أصابه الجنون؛ الكل في حركة سريعة ومستمرة هربا من الحر والزحام، وقد استمرت عربات بائعي الخضار والفاكهة وغيرها من الأشياء بالمرور، تحمل المكبرات أصوات أصحابها الفظة لعنان السماء!

أغمضت عينيها قليلا ليعلو رنين الهاتف صادحا فجأة، نظرت إليه مُرْتعبة؛ لم يرن هاتفها منذ سنوات.
تُرى ما الذي..؟!
قالت بحيرة حقيقية:
– أيمكن أن…؟!
وللحظة قررت الوقوف والجري نحو هاتفها القديم، لكنها تذكرت مأساتها، ذلك الحادث المُروع الذي أفقدها القدرة على المشي يوما ما.
كان الشتاء صعبا والأرض موحِلة بعد يوم طويل من الأمطار الغزيرة، دقت الساعة الحادية عشرة ليلا فلملمت أشياءها متعجلة العودة إلى منزلها، لتنال بعضا من الراحة قبل أن تعود إلى مناوبتها الليلية في اليوم التالي، بأحد المستشفيات، مضت في الشوارع الخلفية للمستشفى الضخم وهى تترنح من البرد والإرهاق، لا تكاد ترى حين اندفعت سيارة ما لتخلعها من على الرصيف، مُلقية بها في الاتجاه المقابل، ثم تنطلق بأقصى سرعتها دون أن تلتفت.

كان حظها جيدا، فقد كان المستشفى على مسافة مائتي متر تقريبا، ولكنها فقدت قدرتها على المشي وصارت أسيرة كرسيها المتحرك إلى الأبد.
كان الهاتف يرن، ثم يتوقف، ثم يرن مرارا وتكرارا.
– لم لا يسكت هذا الشيء؟!
قالت وهي تضع يديها على أذنيها علَّها لا تسمع، ولكن لا فائدة.
لم يتوقف الهاتف.
والمأساة أنها كانت قد انتقلت بمساعدة أختها إلى كرسيها المفضل بجوار النافذة، تاركة كرسيها المتحرك على بُعد خطوات غير بعيد.
كانت أختها قد خرجت لشراء بضعة أشياء ولم تعد بعد، والهاتف يرن دون توقف.
حسمت أمرها وقررت الزحف لترى ما هناك، تحاملت جاذبة نصفها السفلي نحو الأرض حتى سقطت بقوة، ثم بدأت الزحف بصعوبة حتى وصلت إلى كرسيها المتحرك، رفعت جِذعها بمعجزة ما حتى استوت فوقه أخيرا، التقطت أنفاسها المتقطعة، ثم تقدمت نحو الهاتف الذي لم يتوقف عن الرنين.
– آلو..
– أنا..
ولم تسمع الاسم جيدا من شدة لهاثها وضوضاء الشارع التي لا تنتهي
– من؟
– شركة الهاتف..
– شركة الهاتف؟!

رددت بغيظ قبل أن تغلق الهاتف في وجهه مانعة نفسها من سبه بأعجوبة، في حين أدارت أختها مفتاحها بالباب…

ركام

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى