أدبي

الوحشُ الأسود

وقت النشر : 2022/03/27 11:02:51 PM

الوحشُ الأسود

بقلم: سمر سعيد

اقترب يهمس بجانب أذنها:

صباح الخير أيتها الكسولة، هيا استيقظي لقد اشتقتُ إلى شمس نهاري، افتحي عينيكِ البندقية ليعُمّ الخير، يملأُ يومي.

 طبع على جبينها قبلة حانية مغادرًا المنزل على وعدٍ بالحضور مساءً بعد إنهاء عمله ليصطحبها في رحلة يجددا فيها حبهما، فاليوم ذكرى زواجهما.

تثاءبت وهي تزيح الكسل عن جسدها، عطره يعبق المكان ملئت به رئتيها وهي تبتسم بغنج متذكرةً صوته الدافئ، نظراته التي يملأها الشوق، أحضانه التي تنعم بالراحة وهي تسكن بينهما، نظرت إلى المرآة تتطلع تلك الشعرات الفضية التي خالطت ليل رأسها وكم هو يعشقه.

أدارت الراديو كعادتها كل صباح لتستمع إلى فقرة مذيعتها المفضلة إيناس جوهر وهي تلقي رباعية صلاح جاهين المعروفة.

تضحك حينما تتذكر أول لقاء جمعها بحبيبها حيث كانت تتنظر الحافلة المتجهة نحو كلية الفنون الجميلة على الكورنيش، رائحة اليود تعبق الهواء مختلطة برائحة القهوة الذكية، ضحكات الأطفال وهم يتجهون نحو مدارسهم، أصوات بعض الباعة المتجولون، أشعة الشمس التي تبث الدفء إلى الأجساد؛ ما إن وصلت الحافلة حتى هرولت نحوها مسرعة لتقتنص فرصة الجلوس على مقعدها المحبب بجوار النافذة قبل أن يسبقها إليه أي شخص آخر، من الجهة المقابلة كان يوجد شاب يحاول أن يصل لنفس المقعد إلا أنه اصطدم بأحد الركاب مما عرقل وصوله لتصل هي قبله، تجلس مصفقًه وعلى وجهها ابتسامة طفولية رائعة أنها حصلت على هذا المقعد، جلس بجوارها ذلك الشاب وملامحه يسكنها الغضب إلا أن قسماته لانت عندما رأى ضحكتها، وقع في حبها منذ اللحظة الأولى، أخرجت ورقة من حقيبتها وشرعت في رسم تلك الأمواج المتراقصة، قرص الشمس يرسل أشعته الذهبية فوقها، أنهت رسمتها مُذيلة نهايتها بكلمة: “احتفظ بها لتجد دائمًا البحر إلى جوارك حتى لو لم تجلس بجوار النافذة”.

ثم رسمت وجه ضاحك منحته إياها قبل أن تغادر الحافلة

وهي تدندن أحدى أغنيات فيروز؛ علا صوت المذياع بتلك الأغنية ليعيدها من تلك الذكرى لتردد معها:

أنا لحبيبي وحبيبي إلي

يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي

صنعت فنجان القهوة الخاص بها لتتلذذ بمذاقها وهي تجلس على أرجوحتها المفضلة بالقرب من النافذة، التي أهداها لها زوجها بذكرى زواجهما الخامس.

تمعنت بتلك الإطارات الخشبية ( البراويز) التي تزين الطاولة المجاورة لها حيث توجد بها عدة صور تجمعها مع زوجها، أخرى تجمعها مع شاب يحمل ملامح أبيه الواقف إلى جواره، صورة أخرى تجمعها مع فتاة تحمل نفس ملامحها، صورة جماعية لها مع أبنها وزوجته وطفل وطفلة يحملان نفس الملامح؛ قبلت تلك الصورة ثم دلفت إلى المطبخ لتعد وجبة الغداء قبل أن يحضر زوجها، صنعت كعكة من البرتقال ذات الرائحة الشهية، شرائح اللحم المنغمسة في صوص البصل، المعكرونة، الأرز، بعض شرائح الخضار الطازجة و شوربة لسان العصفور

أرسلت إلى ابنتها وابنها رسالة بأن يحضرا اليوم للاحتفال بعيد زواجها من والدهما ثم أغلقت الهاتف لتزين الطاولة بالزهور الحمراء التي تملأ شرفتها، بعض الشموع ذات الرائحة الفواحة؛ دقت الساعة الثالثة بعد الظهر نظرت نحو الطاولة نظرة فخر، اعجاب بما صنعت، فالطاولة تشبه أحدى لوحات بيكاسو، دلَفتْ إلى غرفتها لتُبدّل تلك الملابس التي ترتديها بملابس أخرى، اختارت فستان من اللون الأسود ذراعاه من التُّل مطعمٌ ببعض الزهور الحمراء، تعطّرت من إحدى الزجاجات التي تسكن أمام مرآتها، رسمت عينيها بأحد أقلام الكحل لتزيد من جمالها وبريقها، همست لنفسها:

– مؤكد سوف تروق له طلتي فهو يعشق هذا اللون، ذلك العطر.

جلست بالقرب من الشرفة، اتصلت بأحد المحال تطلب هدية لزوجها، أنهت المكالمة بعدها. طالعت ألبوم الصور الذي يجمع كافة صورها مع زوجها، أبناءه، أحفادها وبعض الأصدقاء والأقارب وهي تقرأ ما سجّلتهُ خلف كل صورة كما اعتادت، حملت إحدى أوراقها وبدأت في رسم لوحة لتهدي زوجها إياها، أنهت لوحتها بعد ساعتين من التركيز، رنّ جرس المنزل ليخرجها من تمعن ملامح زوجها التي تسكن الأوراق، فتحت الباب وعلى وجهها بسمة عذبة شكرت المندوب على إحضار هديتها ومنحته بعض الأموال زيادة على ثمنها، أغلقت الباب وهي تنظر بسعادة إلى تلك العلبة المخملية التي تسكن بين راحة يدها فهي تحوي ساعة ذهبية من الماركة المفضلة لدى زوجها وضعتها بجوار اللوحة وجلست تنتظر حضوره وحضور أبنائها.

بدأت الشمس في مغادرة صفحة السماء، صوت المفتاح وهو يدور بالباب جعل قلبها يقفز فرحًا هرولت لتستقبل معشوقها وتنعم بأحضانه لكنها لم تجده بل كانت ابنتها، قبّلتها وهي تداعب حفيدتها التي تحملها

– والدك في الطريق ما أن يحضر سوف نحتفل، شقيقك أيضا على وشك الوصول

سقطت دمعة من عينيها حينما ذكرت اسم والدها وشقيقها، اقتربت تزيح تلك الدمعة الغادرة عن وجنتها لتسألها:

– ماذا حدث؟ لم تلك الدموع؟!

أجابتها بصوتٍ مرتعش يكسوه الحزن والدموع:

 – متى سوف تقتنعين أن أبي فارقنا، لقد تُوفي منذ ثلاثة أشهر، أخي سافر وأهملنا، ارحمي قلبك يا أمي، فهما لم يعدا معنا.

صفعتها بقوةٍ:

– كاذبة

ثم سقطت بين براثن…الوحش الأسود.

 

تمت المراجعة والتنسيق من قبل فريق ريمونارف الأدبية

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى