أدبيمقالات متنوعة

رواية مأدبة عشاء على جثتي “الفصل الأول”

وقت النشر : 2024/05/29 08:53:53 PM

رواية مأدبة عشاء على جثتي “الفصل الأول”

بقلم: حسين حشيش

الجدة (ألبرتين) تتغنى كل يوم بقصتها وقصة اللقاء الذي جمعها مع (ألن)؛
يجتمع أحفاد ابنتها الوحيدة (كرستين)، يجلس الأحفاد ليسمعوا جدتهم، بدأت قصتها برؤيا في المنام لفتاة جميـلة تدعى (ألبرتين)؛ عراقـية من أصل أرميني، ترى في منامها شابًا جميلًا يرتدي زيًا عسكريًا يهبط من سفينةٍ على شط العراق.

تراه بقلبها وتشعر به نبضاتها، ترى فيه الضياء الذي ينشر الأمان على البائسين المارة في الطرقات، والذي يفتقده الغني من فرط التسلط على الرقاب.
وتشعر بالسعادة التي يستشعر بها الغني بسطوة المال والفخر، بسطوة التملك على الرقاب، الضياء الذي يختلف نوره في العيون باختلاف النفوس والضمائر، السعادة بمفهوم ألبرتين البريئة.

استيقظت بكل تفاؤل يملأ الأفق، يملأ عالمها الصغير في مدينتها العريقة(البصرة)، التي تقع في أقصى جنوب العراق على الضفة الغربية لشط العرب؛ الشط الذي تشعر فيه (البرتين) بالراحة والهدوء، الشط الذي هو حق ٌللجميع، ملتقى القلوب، ملتقى البسطاء والأغنياء، من منا لا يعشق البحر، كل القلوب توحدت في حبه وتقاسموا نسماته، يسمع من الجميع ولا يشتكي، يحمل من الأعباء ولا يتألم، ويسمع الكثير والكثير ولا يتأذى، تتلاطم أمواجه لكي يُطرب الآذان، يَسمع نداء العاشقين ويحمل لهم الخير كله.

على متن سفينةٍ بحرية إنجليزية، يهبط من السفينة وكأنها السماء عندما تأتي بالمطر ليَسقي الأرض المقحلة، ليُحيي الزرع كما تَحيا القلوب، يأتي الشاب ( ألن ) مع قوات إنجليزية للعراق عام 1946، حيث كانت العراق قديمًا تحت الوصاية البريطانية.

جاءت الأقدار به حتى يتحقق الحُلم، تقابلت الأعين وبريق الأعين أذاب الشاطئ لهيبًا كبركانٍ هادئ ينشط ولم يؤذن له بالانفجار، تساؤلات بلا جواب في خاطرها، ولكن يكفي أنها رأت من كانت تحلم به.
ولكن من جاء به إلى هنا؟
أليس الله من أتى به إليها، وسمع رجائها ولم يكن لديها سبيلٌ سوى الانتظار، انتظار العاشق يوم اللقاء، انتظارٌ يحمل العناء والشقاء بعد أحلام تراءت في المساء وتراءت في الصباح، انتظارٌ بعد انتظار.

عادت لبيتها الكبير وحياة الترف التي لم تشعر به يومًا لبساطتها، ولنظرتها للحياة التي تختلف عن غيرها.
ومالبثت أيام حتى أقيمت حفلة تضم أغنياء المدينة وبعض ضباط الجيش الإنجليزى وكان بينهم (ألن)، وعندما رأته (ألبرتين) أدركت أنه هو ولا أحد غيره، وعندما تقابلت الأعين تعانقت الأرواح ودقت القلوب، تحدثت الأعين وعاتبت الغياب وأصاب الهوى القلوب بسهامه، أصابها دون كلمات، أصابها بدقات القلوب كما تدق أجراس الكنائس لتعلن إقامة الشعائر ولكن لا يسمعها سواهم.

وما أن رآها (ألن) تعلق قلبه وذابت روحه ونسج الهوى أنسجة المحبة التي تربطها المقادير، أدرك انه ذهب إلى العراق من أجلها
أدرك أنه ذهب لتستعمر(ألبرتين) قلبه استعمارًا بلا وصاية بلا كراهية بلا تَملك، ليس كوصاية انجلترا على العراق، استعمارًا بلا جلاء بلا انسحاب، بـل وطـن يُدعى (ألبرتين).

كم تحدث معها مراتٍ ومرات، ولكن في مخيلته، كم رسمها على جدران ذاكرته، كم كان سجينًا دون اختيار في منفاها، ولكن لم يعلم في أي البقاع هي، وهل ستأتي أم سيذهب إلى شواطئ النسيان دون لقاء، كم تساءل عنها بداخله!

انتهى الحفل وهو لا يرى ولا يشعر بأحد سواها، كانت هي العالم الحقيقي الذي يعيش فيه، كانت الجنة بما تحمل الكلمة من معنى، لم يتحدث إلا عنها مع صديق عربي في الحفل، سأله عنها وعن اسمها وأين تسكن، وانتهى الحفل ولم تنتهي القصة بل بدأت من هنا، بدأت وبدأ الهوى يسكن بداخله ولا يترك للعقل مجالًا للحديث أو للتمهل.

قرر إنهاء علاقته بخطيبته في انجلترا، لأنه لم يشعر تجاهها بما يشعر به الآن، وكأنني أرى ما كان يمر به رأي العين كسجين للروح قادمٌ من المنفى.

وهنا سكت (ألن)، وبدون أن يشعر تحركت قدماه إلى بيتها بعد منتصف الليل، وفي كل خطوة يرى الجنة تقترب ويشم عبير عطرها، وظل يمشي حتى وصل وطرق الباب، طرق باب الجنة كي يرى النعيم في عينيها، طرق وكان صوت قلبه أعلى من طرق بابها
ولكن لم يرَها بل رأى شخصاً آخر.
سأله ماذا تريد
قال له أريد أن اتحدث مع (البرتين)
رد قائلًا: هل جننت يا رجل، ليس من عاداتنا هذه الأمور، كما أن الوقت متأخر وليس مناسبًا لقدومك، كان عليك أن تنتبه لمثل هذه العادات، أنت هنا على أرض ٍعربية ولنا تقاليدنا وعاداتنا، عليك أن تحترمها.
اذهب الآن، وأغلقَ الباب في وجهه، ذهب(ألن) إلى صديقه وأخبره بما فعل، تَعجب ولم يُصدق ما حدث وكيف حدث كل هذا من أول لقاء.
رد (ألن) قال بل منذ سنواتٌ وسنوات، حتى أني كنت أرسمها في خيالي، أرسمها في كتاباتي، وأدون صفاتها بمحبرتي على شواطئ البلدانِ، بحثت عنها طويلًا قبل ستة وعشرون عامًا منذ ولادتي، فهي اكتمال الروح في ذاتي ورجائي ودعوتي في مناجاتي.
قال صديقه هل ترغب بالزواج منها

قال(ألن) بالطبع وليس غير ذلك
قال صديقه عليك أن تذهب لخطبتها وتأخد معك قس الكنيسة وتطلب يدها من فورك.
رد ألن قائلا : غدًا أفعل
ذهب وطلب يدها وتمت الخطبة والزواج فى عُرس يليق (بألبرتين)، لم تكن هناك أزمة في التعامل والحوار بسبب اللغة، كانت بينهما لغة العيون ودقات القلوب وحبل الأفكار مغزول بالهوى وتعزف الأصابع على أوتار الهمسات فتصنع الحديث من داخل أركان النفوس.
وعندما علم الجيش الإنجليزى بهذا الزواج، أخطروه أكثر من مرة بأن يترك الفتاة العربية أو أن يترك عمله في الجيش فاختار (ألبرتين).

وظل في العراق وأصبح يعمل في تدريس اللغة الإنجليزية في إحدى المدارس، وعاشا معًا حياة يملؤها الحب والتعاون المشترك
في كل شيء حتى في الأعمال المنزلية.
لقد كانوا سعداء، كان الحب ينمو ويرسم الابتسامة على الوجوه، على نغمات الموسيقى، على نسمات الصباح وأوتار الليل الساحرة، على كلمات الهوى والعشق يشدو بالغناء، تعزف الأوتار قصة اللقاء وحُلمًا أصبح واقعًا ملموسًا لمن أراد البقاء مع من يحب، لمن يشتري نفسه ولو ضاقت به الدنيا بما رحبت، سوف يجد السعة في نفسه، سوف يشعر بالبراح بين أرجائه، فالحب والبقاء مع من تحب هي السعادة الحقيقة.

أنجبا طفلة جميلة تدعى (كرستين)، ولدت بالعراق وكانت الزهرة التي نبتت من قصة الحب التي لاتعرف المستحيل؛ كرستين الجميلة التي أحبت الحياة ونشأت على الحب والعلاقة الدافئة بين (ألن وألبرتين) رأت معنى الحب الحقيقي في طيات الذكريات، حول مدفأة الشتاء وزخات المطر التي تمحو أتربة الحاضر وتعيد الأشياء من جديد إلى عبق الماضي عندما نشم رائحتة بهطول الأمطار، وفي حدائق البصرة بين الورود والفراشات الجميلة بين أصوات العصافير وخرير الماء الذي ينسال في النهر يتأرجح بين شاطئيه تاريخ الحضارات القديمة.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى