أدبي

موعد مع القدر

وقت النشر : 2022/04/13 10:03:21 AM

موعد مع القدر

بقلم: بانسيه محمد فضل

مدر انتصف نهار أول أيام رمضان، وهدى منشغلة في المطبخ قبل الإفطار، تحاول أن تحبس دموعها؛

فابنها الغالي – عمر- لأول مرة لن يفطر معهم في أول رمضان،لم يستطع أن يأخذ إجازة من التجنيد كما أخبرها أمس.

دخلت سميرة ابنتها لتساعدها في إعداد الطعام، حاولت أن تداعبها وتفرّج عنها،

حضرت السمبوسك لتحشوها بخلطة الجبن كما يفضلها عمر قائلة:

-أخيرا هناكل السمبوسك براحتنا قبل ما عمر يخلصها!

 ابتسمت شفتها، لكن قلبها لا يزال منشغلًا بحبيبها وقرة عينها عمر.

قامت لتصلي العصر، وتدعو الله أن يطمئنها عليه، ويجمعها به علي خير،

فلم يعد معها رجل غيره بعد موت أبيه، وسفر أخيه للعمل بالخارج،

فانقسم قلبها شوقا بين ابنيها، وشتّ عقلها قلقا عليهما.

لم يتوقف جرس الهاتف بالمعايدات لها من إخوتها بقدوم رمضان، استرجعوا ذكريات الماضي في بيت العائلة ببلدتهم الريفية الصغيرة،

فسرحت بفكرها لبيت جدهم العمدة، وزينة شوارع القرية المبهجة، وهم أطفال صغار يلعبون قبل الإفطار بمصابيحهم الملونة كطيور تغرد بالمكان

، دمعت عيناها حين تذكرت أمها وأحلى طعم للمحشي بنكهته المميزة من يديها، ترحمت عليها، ودعت لها ولأبيها بالمغفرة، وقامت مسرعة لتكمل إعداد طعام الإفطار.

اقترب أذان المغرب، وصوت الشيخ محمد رفعت الجميل يتلو آيات القرآن قبل الإفطار بالإذاعة المصرية،

أعدت سميرة المائدة، لكنها سمعت جرس الباب، اندهشت من القادم فجأة علي الإفطار؟

فتحت الباب، وصرخت حين رأت أخاها عمر أمامها أشعث أغبر، وملابسه بها بعض آثار الدماء.

أسرعت الأم لترى ما سبب صراخها، فكادت أن تفقد وعيها حين رأت عمر أمامها،

لم تدري، أتفرح لمجيئه أم تقلق لمنظره المقلق؟

جلس عمر ليلتقط أنفاسه وطمأنهم أنه بخير، لكنه دخل ليبدل ثيابه قبل الإفطار وعيون أمه تتبعه في قلق، تنتظر أن يريح بالها من القلق.

مدفع الإفطار أعلن موعد الإفطار، واجتمعوا سويا على المائدة، وبعد التمر والدعاء قص عليهم عمر ما حدث:

كنت بموقع تجنيدي أنا وزملائي بالأمس نستعد للسحور، ورغم حزننا لعدم قضاء أول رمضان مع أسرنا، لكن صحبتنا سويا هوَّنت الأمر  .

اتصل بنا القائد ليطلب اثنين منا في مهمة خاصة للقاهرة؛ لإحضار بعض المؤن الغذائية للكتيبة،

لكن في طريقنا الصحراوي، تعطلت السيارة دون سبب، توقفنا لإصلاحها، فإذا بهجوم لمجموعة ملثمين، فأسرع صديقي بالسيارة بعد تبادل النيران ومقتل فرد منهم،

لكن صديقي أصيب بطلق ناري في كتفه، ربطت الجرح ليتوقف النزيف، قدت السيارة مكانه لأقرب مستشفى عسكري بالقاهرة ولم أتركه إلا بعد استقرار حالته بالمشفى،

وبعد إبلاغي القائد بما حدث أعطاني إجازة لمدة يوم كامل حتى يشفى زميلي، وها أنا هنا أمامك يا ست الكل لنفطر سويا، وسنعود غدا بأمر الله.

انسابت دموع الأم وهي تحتضن ابنها عمر داعيةً الله أن ينجيه ويحفظه، حاولت سميرة تهدئة الأمر مازحة:

مفيش فايدة، عمر جه مخصوص يخلص السمبوسك أول رمضان زي كل سنة.

ضحك عمر جاذبا طبق السمبوسك من أمامها، وقبّل يد أمه وهو يتلذذ بطعمها الشهي.

بعد الإفطار، جلس يشرب كوب الشاي بالنعناع مع كنافة أمه الخطيرة، وهي بجواره تملأ عينيها منه لتُشبع شوقها إليه، وتطمئن قلبها أنه بخير،

وفاتحته كعادتها في موضوع خطبة جارتهم سها، لكنه ابتسم مخبرا إياها أنه بوضع غير مستقر ولن يظلمها معه

، وإن كان هناك نصيب فسيمهله القدر فرصة لحين رجوعه وإنهاء تجنيده، كما طمأنها عمر حين لاحظ قلقها من كلماته:

– ابنك رجل مثل أبيه يا أمي، لن أتراجع أو أتخاذل عن خدمة وطني كجدي الذي ضحى بروحه وخضب تراب الوطن بدمائه الطاهرة في حرب أكتوبر 73

، فلا تقلقي، لكن لا تكُفي عن الدعاء لي وزملائي؛ فنحن نحيا بدعواتك ودعوات كل الأمهات.

بعد صلاة العشاء، قبّل أمه، وعانق أخته، وحمل حقيبته وتوكل على الله ليصطحب زميله من المشفى عائدين لثكنتهم العسكرية.

لكن القدر لم يمهله كما تمنى، فبعد وصوله لموقعه بأيام، تعرضوا لهجوم غادر انتقاما لمن قتلوه من الملثمين بالطريق،

قُتل به عمر واثنان من زملائه، ليلحق شهيدا بجده، وفي نفس اليوم – العاشر من رمضان- وكأن ما حدث لعمر كان سببا ليودع أسرته قبل رحيله بأيام.

 جاء القائد بنفسه ليقوم بواجب العزاء لأمه بعد شهر من صدمتها واحتجازها بالمشفى، لكن الله ربط علي قلبها، واحتسبته شهيدا عند الله،

فأخبرها بموعد تكريمها وتكريم ابنها البطل بيوم الشهيد، ذلك اليوم الذي اختلطت فيه دماء الشهداء بدموع الأمهات في ذكرى رحيلهم،

ووقف الجميع لحظة حداد عليهم، ووقف زميل عمر ليساند أمه قائلا:

لا تقلقي يا أمي؛ فكلنا أبناؤك، ولن يضيع حق عمر وزملائنا أبدا، فهوِّني على نفسك،

فمن قُتلوا في سبيل الله شهداء، أحياء عند ربهم يرزقون.

نظرت له الأم والدموع بعينيها ورددت:

– ربنا يحميكم يا ابني، وعمر مماتش، عايش بيكم وبروحكم، وربنا يكرمكم ويقدركم تجيبوا حق عمر وكل الشهداء.

وقفت أم عمر تحمل صورته بعد أن قلدوها قلادة أم البطل وهي تدعو الله أن تلحق به.

موعد مع القدر
موعد مع القدر

موعد مع القدر

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى