أدبي

الصور والأخيلة في التجربة الأدبية

وقت النشر : 2022/07/01 08:10:14 PM

الصور والأخيلة في التجربة الأدبية

بقلم: مصطفى نصر

الصور والأخيلة وسيلة من الوسائل المتاحة للأديب لإيصال تجربته الأدبية للمتلقي بأكبر قدر من التأثير، فتبقى في ذاكرته لأطول مدى زمني ممكن، فيكتب بذلك للأدب الخلود حتى بعد أن يذهب الشاعر.

فأين شوقي وحافظ والمتنبي وامرؤ القيس وابن الرومي؟ لقد ذهبوا جميعًا وبقي شعرهم تتداوله الأجيال تلو الأجيال، ولعل هذا ما عناه المتنبئ عندما قال:

أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا

ويسهر الخَلْق جَرّاهَا وَيخْتَصِم

أي ينام ولا يهتم بشعره، لكن الناس يسهرون في جدل حوله.

والصورة الفنية الجميلة التي تبقى في الذاكرة، ‬هي التي تأتي كشفا عن علاقات لم تكن مكتشفة من قبل بين المدركات أو الظواهر‮، والأصل في ذلك هو إدراك المشابهة بين ما لم‮ ‬يكن مدركا،‮ ‬أو ما‮ ‬يندر إدراكه،‮ ‬أو ما‮ ‬يتعذر على المخيلة العادية أن تضعه في مقارنة مع غيره، فيعمل القارئ ذهنه لكشف العلاقة بين الأمرين، ولا تؤثر الصور السهلة القريبة الدلالة‮ على القارئ لأنها تمر مرور الكرام.

لذا، فقد وقف النقاد طويلًا أمام الصورة الفنية في قول الله تعالى: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) الصافات).

وقد قال كثيرون إن الصور تأتي لشرح مجهول بمعلوم، لكن الصورة هنا  جمعت بين مجهول ومجهول؛ فلم يرَ أحد رؤوس الشياطين أصلا ليستطيع فهم شكل ثمار شجرة الزقوم التي هي أيضا لم يرها أحد لأن لا وجود لها بالأرض البشرية، فهي تنبت في الجحيم.

أقول -والله أعلم- إن الصورة أدت الدور المطلوب منها بكفاءة عالية، حيث الإشارة لأقصى درجات القبح، فلو جمعنا مائة رسام من مختلف أنحاء العالم وقلنا لهم ارسموا لنا رأس شيطان لأتونا بمائة صورة مختلفة، ولكن ستتفق كلها على أنها شديدة القبح، لأن الذي استقر في ذهن البشرية هو أن الشيطان هو الأقبح في الكون.

لذا استحسن النقاد الصورة اليتيمة التي تمتاز بالجدة والابتكار، وقد تحدثنا من قبل عن الصورة الفنية اليتيمة في قول عنترة وهو يصف النحل:

هَزِجاً يَحُكُّ ذِراعَهُ بِذِراعِهِ

قَدحَ المُكِبِّ عَلى الزِنادِ الأَجذَمِ

وقلنا إن هذه الصورة لم يحاول أحد قط تقلدها؛ لأن إن فعل أي شاعر ذلك سيبدو للجميع مجرد مقلد للآخرين. ومثله في الطرافة والجدة واليتم قول عمرو بن كلثوم:

وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـوًا

وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا

إذ يدعي الشاعر أنهم يأتون في المركز الأول دائما، ثم يأتي باقي الناس بعدهم، حيث إذا جاءوا إلى مورد الماء تباعد الناس وذهبوا للصفوف الخلفية حتى يكتفوا هم من الماء صافيا عذبًا قبل أن يصل إليه أحد، ثم يشرب الآخرون الماء المعتكر بعدهم.

والصور لأنها تدرك بالحواس، جاءت أنواعها خمسة حسب حواس الإنسان الخمس؛ بصرية، وسمعية، وذوقية، ومشمومة، وملموسة.

ومن الصور التي جمعت بين أربعة من حواس الإنسان الخمس، حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه: (مثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ: ريحها طيب وطعمها طيب) ” البخاري (5020)، ومسلم (797)”،

فالأترج هو فاكهة جمعت بين أربع حواس فهي: ناعمة (ملموسة) جميلة المنظر (مرئية) حلوة الطعم (تذوق) طيبة الرائحة (مشمومة)

ومن الصور السمعية قول عنترة:

ولقد شَفى نفسي وأبرأَ سُقْمَها

قيلُ الفوارس ويكَ عنترَ أقدمِ

استخدم الشاعر هنا الأحرف المهموسة (الشين والسين) في: شفى، ونفسي، وسقمها، والفوارس، فضلًا عن الأحرف اللينة في الشطر الأول مثل الشين، والألف المقصورة، والنون، والتاء، والسين، والياء، للتعبير عن الراحة النفسية بعد التوتر، على أن صدر البيت ينقسم إلى قسمين، انبثق منهما الإيقاع لحالتين نفسيتين، الأولى: (ولقد شفى نفسي)، والثانية: (أبرأ سقمها) حيث ضمت حروفا مجهورة لتأكيد الشفاء.

وإذا ما تأملنا الشطر الثاني (العجز) فسنجده قد امتاز بإيقاع طويل واحد، حيث تسلم الشاعر النداء، وفيه إرضاء للمشاعر وإسكات لصوت الغرور. ومن خلال الإيقاعين الخارجي والداخلي نجد النغم المتباين في إبراز المعنى الذي عبّر عنه الشاعر ببراعة في الإعلان عن تغيير حالته المزرية إلى حالة اهتمام واعتزاز بفروسيته في المواقف الحرجة، كما أن حسن استخدام اللغة والترادف والتضاد أدى إلى خدمة صيغة الأداء المعنوي، فضلا عن الأداء الفني عبر الصورة السمعية.

ولعل من المفارقات أن أجمل الصور البصرية جاءت في شعر الشعراء العُمي، كقول أبي العلاء المعري:

والنحلُ يجني المُر مِن نَور الرُّبا

فيَصير شهدًا في طريق رضابِه

حيث ادعى الشاعر أن غريب اللغات يصير باستعماله مألوفًا للطباع، ولكي يؤكد صدق هذا الادعاء ويثبته أتى لنا بصورة من الطبيعة تؤكد ذلك وهي: أن النَّحل يَجني الأزهار المرَّة من الآكام فيأكلها، فتصير حلوة في مجاري ريقه؛ أي أن المرَّ بمصاحبة النحل يصير شهدًا، فكذا المستوحش من اللغة يصير مستأنسا باستعماله.

وللحديث بقية إن شاء الله.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى