أدبي

زواج مسيار

وقت النشر : 2022/08/06 05:27:11 AM

زواج مسيار

بقلم مصطفى نصر

تزوجا بعقد مدني لمدة سنتين زواج مسيار ينتهي بنهاية فترة الدراسة والتخرج. ينص العقد القابل للتجديد -برضاء الطرفين- على أن يتكفل كل طرف بنصف تكاليف الإيجار والإقامة والفواتير الشهرية واجبة السداد، وأن تجمع بينهما حياة زوجية يسودها الاحترام المتبادل. على أن ينجب الطرفان طفلا واحدا يحمل اسم الأب، لكنه بعد نهاية الزواج تؤول كفالته للأم مدى الحياة. ولا يجوز للأب اتباع أي طرق قانونية لضمه إلى كفالته في أي مرحلة من المراحل السنية للمولود.

وبعد نهاية العقد لم توافق على تمديده، رغم أن زوجها كان حريصا على بقائها معه. وأخذت الطفل ورحلت. وبعد أسبوعين، أحسَّ الأب بفقد كبير ووحشة نتيجة هجر زوجته له. فجدَّ في البحث عنها، فوجدها في نفس مكان عملها، قابلها وهي خارجة بعد نهاية الدوام، فطلب منها أن تترك الطفل معه لمدة أسبوع، لكن الأم رفضت طلبه بشدة وطالبته بالالتزام بالعقد الموقع بينهما، لكنها لكرم نفسها كما قالت سمحت له بأن يصاحبها للحضانة ويحمل ابنه لمدة نصف ساعة فقط أمام عينيها.

وبعد شهرين آخرين وفي إطار تقلب مزاجها جاءت من تلقاء نفسها وطلبت منه إعادة العلاقة معه حتى ينمو الطفل في بيئة طبيعية. تحت رعاية أبويه، حتى لا يوثر الانفصال في نموه النفسي، واستمرت الحياة بينهما بانسجام كبير، تظلل حياتهما حالة حب ومودة. حتى ظن أن نزواتها في الهجر قد زالت إلى الأبد، عادت بعد سنة واحدة لعادتها القديمة. وأخبرته بأنها قررت الرحيل مرة أخرى، وأخذت الطفل وعادت لحياة العزوبية في منزلها.

بعد شهرين زار مكتبها نجم موسيقي مرموق، ظلت من المعجبين بفرقته الموسيقية ذات الشهرة الكبيرة بالبلاد. يستشيرها في بعض الأمور القانونية المتعلقة بقوانين الملكية الفكرية، فقررت أن تقدم له خبرتها القانونية بتخفيضات كبيرة في الأتعاب إعجابا بفنه. وبعد فترة تعارف قصيرة أثناء لقاءاتها به لحسم بعض الدعاوى بالمحاكم، قبلت عرضه بأن تكون مسؤولة الشؤون القانونية بمكتبه الفني. ثم تبع ذلك بعد فترة قصيرة طلبه بالزواج منها، لكنه أشترط أن تأتيه وحدها بدون الطفل، جاءت بالطفل لزوجها وذهبت وتزوجت فأصبح الطفل تحت كفالته. وهو متأكد من أنها ستعود إليه مرة أخرى، ولو بعد حين.

بعد شهور من زواجها منه أحست بأن الحياة الفوضوية البوهيمية لزوجها تضرب مستقبلها المهني كقانونية في مقتل. إذ أن تواجد فرقته الموسيقية معه في المنزل مع البروفات والصخب سلبت منها الهدوء والتركيز الذي تتطلبه صياغة المذكرات القانونية المحتشدة بالدفوعات والطعون واستغلال الثغرات القانونية لجلب البراءة لموكلها. فضلاً عن أنه يتركها لفترات طويلة في رحلات فنية من أقصى البلاد إلى أقصاها. وقد أصابت الرتابة علاقتهما الزوجية لدرجة أنه أصبح لا يهتم حتى بمكالمات هاتفية مقتضبة، بل أصبح يتعامل معها كأي واحدة من معجباته الكثر.

وبعد سنة تحولت علاقتهما من الرتابة إلى التسلط، لدرجة آنه لمجرد خلاف بسيط بينهما. مد يده نحوها وضربها تحت تأثير الخمر فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير. فقررت تركه بدون رجعة. جاءت وأعادت الزواج بزوجها والطفل معهما. ثم بعد سنة قررت أن تنهي العلاقة مع زوجها وأخذت طفلها وذهبت.

بعد شهور من استلام وثيقة الطلاق من زوجها الثاني الموسيقي، زار مكتبها رجل أعمال صاحب مليارات، بغرض استشارة قانونية. قدمت له بعض الاستشارات التي أفادته في عدد من قضايا مجموعة شركاته. وقامت بتسويات في بعض القضايا التي صنف فيها الدين بأنه هالك.. واستردت له ببراعتها ديونا كان ميئوسا منها، فقدم لها عقدا ضخما للعمل بالمجموعة بالإدارة القانونية. وبالفعل قبلت الوظيفة المغرية. وقد كان لها بصمتها الواضحة في أرشفة قضايا المجموعة ورقيا وإلكترونيا. ونشطت العمل بصورة كبيرة في حفظ حقوق المجموعة. وزيادة عائداتها بصورة ملحوظة.

قابل صاحب المجموعة تفانيها في العمل بالعرفان. فرقاها إلى منصب قيادي بالمجموعة وهو نائب المدير العام. لتمسك أكثر بأوراق العمل لتصبغها بالصبغة القانونية، فقابلت الوفاء بالوفاء، لنقل المجموعة لمعايير الجودة العالمية، وعملت بجدية أكبر وبذلت الجهد والعرق لتصل المجموعة وكافة شركاتها لمعايير الآيزو، وبكثير من الجدية والعزم استطاعت أن تحقق المعايير المطلوبة لنيل شهادة الجودة العالمية، واقتربت أكثر من قلب صاحب المجموعة ليطلب منها الزواج ليمثل الزوج الثالث لها.

عاشت معه عامين من الزواج المثالي، لكن لأن الحياة المثالية لا تدوم طويلا، فوجئت بوفاته ذات نهار حزين وهو في مكتبه يمارس عمله حتى آخر رمق من حياته.

أصيبت بصدمة عصبية كادت تذهب بحياتها هي الأخرى، ولم تستوعب ما يجري حولها إلا بعد خمسة أيام بالعناية المكثفة، لم تستطع العودة للعمل مرة أخرى، وشاءت الأقدار أن تخرج من هذه العلاقة بثروة هائلة لم تكن حتى في تصورها لنهاية هذه العلاقة.

رفضت العودة لزوجها، لكنها تركت الطفل له وذهبت في جولة حول العالم بمال زوجها المرحوم، علها تخرج من حالة الاكتئاب التي خلفها موت زوجها المفاجئ امتدت لمدة سنتين والطفل معه، بعد شهرين من رحلتها حول العالم قررت العودة لزوجها ليلتئم شمل الأسرة، وأنشأت شركة وجعلته شريكا معها بالنصف والطفل معهم.

راهبة في دير

بعد ثلاث سنوات تركته وتنازلت له عن الشركة وعن الطفل بشرط ألا يتزوج وأن يكون في انتظارها لربما تعود له يوما ما، لأنه كما تقول هو ملاذها الأخير وحضنها الدافئ مهما غابت عنه، فرحلت وحدها، وانقطعت أخبارها عنه نهائيا لمدة عشر سنوات لم يجد لها أي أثر رغم جديته في البحث عنها، أرسلت له بعد عشر سنوات رسالة نصية عبر الموبايل، بأنها أصبحت نزيلة بمصحة نفسية سمتها له وأرفقت عنوانها بالتفصيل، وأنها اختارت الخلوة واعتزال العالم، وطلبت مجيئه مع الطفل لرؤيته لمدة يوم واحد ثم يرحلا.

كان الطفل وقتها بالمستوى الرابع بالمدرسة الابتدائية وذهب الزوج والطفل لها وبقيا معها لساعات ثم رحلا وبقيت هي في المصحة، فوجداها قد تبدل حالها فأصبحت ترتدي ملابس خشنة من الأقمشة الشعبية بلا زينة ولا مكياج، وأهدت الفقراء جميع ملابسها الثمينة التي جلبتها من أرقى بيوت الأزياء العالمية، أثناء جولتها حول العالم، وطعامها بسيط؛ كسرات من الخبز الجاف مع الحليب والبيض، وفراشها خشن على الأرض رغم المال الوفير في حوزتها وفي رصيدها، لكنها زهدت في الدنيا وزخرفها وقررت أن تعيش الكفاف.

عند زيارتهما لها حضنت ابنها طويلا وهي تنتحب، ثم حضنت زوجها طويلا واعترفت له لأول مرة بأنه الرجل الوحيد الذي أحبته، وأنها كانت بجسدها فقط مع زوجيها الآخرين، حتى خشي الزوج من أن يكون وداعها هذا هو الأخير وإلى الأبد، ثم تفرقا بعد أن سلمت ابنها عقدا بالتنازل عن كل ثروتها وممتلكاتها، طلب منها زوجها أن تبقي جزءا من المال معها للأيام، لكنها رفضت مكتفية برصيد قليل في حسابها، وقالت له:

-سأطلب منك تغذية حسابي إذا نفد رصيدي فهل تمانع؟

قال لها:

-لا على الرحب والسعة في أي وقت.

بعد شهرين عادت لحالتها الطبيعية، وخرجت من المصحة بعد ما يزيد عن عشر سنوات من العزلة، إلى منزل صغير تركته ضمن ممتلكاتها ولم تسجله ضمن ما وهبته لابنها، ورفضت العيش مع زوجها وابنها، لكنها طلبت منه تغذية حسابها، فحول مبلغا محترما لحسابها لأنه كان يحتفظ لها بكامل أرباحها في الشركة في حساب فرعي، كأنها لم تتنازل له عنها، فعادت إلى ملابسها الفاخرة ومطاعمها بكامل الزينة والمكياج فعادت شابة من جديد في كامل الأناقة والبهاء، بعد أن أصابتها الشيخوخة وجف عودها وبدأت تذبل أثناء عزلها في المصحة.

وبعد شهرين قابلت نائبا برلمانيا شهيرا وثريا أوكل لها بعض المسائل القانونية، ثم سرعان ما توطدت علاقتها به في مكتبه بدائرته الانتخابية، فعرض عليها الزواج، فتزوجت للمرة الرابعة، وعاشت معه حياة بزخ كسيدة مجتمع مع علية القوم وفي قلب المجتمع المخملي الراقي، وتحت الأضواء وكاميرات الميديا والقنوات الفضائية، مرتبطة بزوجات كبار السياسيين والوزراء ونواب البرلمان، تتعلم منهم أسرار وخبايا حياة الطبقة العليا وتطبقها معهن بذكائها الفطري دون أن تلفت الأنظار لحداثتها في هذا المجتمع.

وفي فترة قصيرة تم ترشيحها من قبل حزب زوجها كعضوة مرموقة بالحزب، ثم بعد أن أقنعتهم بكفاءتها في التواصل الناجح، ترقت كمسؤول في المكتب السياسي للحزب لشؤون المرأة، ثم ترشحت كنائبة برلمانية، وهي تلعب الدور بكفاءة واقتدار كأنها ولدت سياسية. لما تتمتع به من ذكاء اجتماعي، وكاريزما فطرية مختبئة. عززت كل ذلك بدراستها للقانون الذي هو أقرب للسياسة. حيث أن كبار السياسيين في العالم هم إما رجال قانون أو رجال اقتصاد وعلوم سياسية.

بعد أربع سنوات توفي زوجها البرلماني المرموق وترك لها ثروة كبيرة ظلت حديث المجتمع المخملي لفترة طويلة من الزمان. مع حسد خفي.

فاستطاعت بذلك أن تجمع بين الثروة والسلطة. وذات يوم من أيام عملها الاعتيادي تحت قبة البرلمان، زارها ابنها ليحمل لها نبأ مؤسفا بأن والده قد توفي. زلزل النبأ أركانها وكادت أن يغمى عليها من هول الصدمة. لكن ابنها الذي أصبح شابا قوي البنية على أعتاب إنهاء دراسته الجامعية حملها بين يديه لمستشفى قريب من البرلمان. بقيت فيه قليلا إلى أن اطمأن الأطباء على استقرار حالتها. ثم خرجا ليبدأ كلاهما حياة جديدة دون زوجها الأول الذي بكته بقوة بعد أن فقدت اعز الناس لقلبها وسندها عند الشدائد!

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى