مقالات متنوعة

الدنيا في نظر القرآن

وقت النشر : 2023/01/14 12:53:30 PM

الدنيا في نظر القرآن

كتب: محمد شبكة

ما من فيلسوف أو شاعر أو متأمل في الوجود إلا وحقر الدنيا ؛ واشتكى منها ، لتوالي آفاتها ، وتتابع حسراتها ، فلا لذة فيها إلا مشوبة بألم ، ولا راحة إلا وهي مصحوبة بتعب ، فلا تصف لملك ولا عالم ولا جاهل ، ولكن الناس مالكهم ومملوكهم وعالمهم وجاهلهم ومؤمنهم وكافرهم وإن اتحدوا في هذا الذم إلا أن طرائقهم فيها على غاية التناقض ؛ اتحدوا كلهم في المقدمة ، واختلفوا في النتيجة ، فمنهم المتكالبون عليها ، المتفانون في جمع حطامها ، فكان ذلك التكالب مؤديا إلى التقاطع والتنابذ ، وتعمد الشرور التي تزيد دنياهم نقصا ، وحياتهم تنغيصا ، وهو حال شديد التناقض ، الواقعون فيها اشد الناس قدحا لأنفسهم ، وعجبا من حالهم ، ومن الناس من عرف للدنيا هذه الحال ، فانقطع عنها ونبذها ، ولم يعبأ منها إلا ما يسد الخلة ويقيم الأود ، ولكن إذا كان القسم الاول شديد التناقض ، فالثاني مفرط لا يلبث أن يقع تحت سيطرة القسم الاول ، لأن الدنيا لمن غلب ، ولا غلب إلا بمادة .

جاء الإسلام والناس على هذين المبدأين ، فأتى للأولين من أنواع العبر بما يقتلع حب الدنيا من أنفس المتهورين في حبها ؛ ويريهم حقارتها ونقصها بمثل قوله تعالى ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) آل عمران ١٨٥
وقوله ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) الانعام ٣٢
وقوله تعالى ( ( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) .

وقوله عز وجل :
(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا )
الكهف ٤٥ .

أتى سبحانه وتعالى بمثل هذه الآيات ، ولكنه شفعا بما يجب على الحي أن يعمله في دنياه من سعي وراء الحصول على المادة ؛ حتى لا يقع أهل هذا الدين تحت أسر الأمم المادية ، فقال تعالى ( وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) القصص ٧٧ . وسمى المال خيرا مادام المقصود منه طلب الحق ، فقال سبحانه ( إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) البقرة ١٨٠
وسماه فضلاً فقال عز وجل ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ ) الجمعة ١٠ .

والمال لم يكن خيرا وفضلاً من الله إلا لأنه مكتسب من حل ، لا مأخوذ بقطع رحم ، بمنافسة تجر إلى خراب .
بهذه الحكمة العالية أشرب القرآن نفوس أهله خصلتين ساميتين ، أولاهما : ترك الدنيا لعشاقها ، وثانيتهما: أخذ ما يقيمون به أود حياتهم منها ، ويحميهم من الوقوع في أسر عبادها ، ولا نرى دينا من الأديان حل هذه المسألة على هذا النحو ؛ وقد بدأ المسلمون هذه الحال فظهر على حركاتهم وسكناتهم ، وأسسوا على قاعدته مدينة فاضلة قامت على أعدل صراط الفضيلة حتى قال الله فيهم ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) آل عمران ١١٠

زر الذهاب إلى الأعلى