أدبي

ابتسامة واحدة

قصة قصيرة.

وقت النشر : 2023/06/16 05:08:34 PM

ابتسامة واحدة

بقلم: دعاءزيان.

التفتت والفزع يتملكني، أنظر لتلك اليد التي استقرت على كتفي دون سبب أعلمه، انحنى قريب لنا على أذني وهمس قائلًا:

-اصعد فورًا لجدتك.

سبقتني قدماي وهي تسارع الخطى، تقفز آخذه كل ثلاث درجات للسلم في وثبةٍ واحدة، نغزة قوية أصابت شراييني، يبدو أن مكروهًا قد حدث .

 

أمام غرفة مغلقة وجدت مجموعة من نسوة العائلة يجلسن في حلقة دائرية، فور دخولي زاد النواح، ارتفعت الوجوه صوبي تحملق، أما عن العيون فكستها حمرة داكنة، اتجهت لباب الغرفة، فتحته بتوجس، وجدتها ممدة على الفراش، تبتسم وقد انتقلت إلى رحمة الباريء ، اندفعت نحوها، أمسكت بكتفيها، هززتهما بقوة، وأنا أصرخ:

– لا ليس الآن.. لم أعتذر، لم أطلب الغفران..

 

سحبني أبناء عمومتي عنوة، اخرجوني من المكان، في لحظات التف حولي كل قريب وغريب، يربت على كتفي ويدعو لي بالصبر والسلوان..

 

سأقص عليكم فجيعتي منذ البداية، أنا يونس، شاب في مقتبل العمر، انتهيت للتو من دراستي الجامعية في جامعة خاصة تعادل تكاليف الدراسة بها مرتب موظف حكومى بالدرجة الأولى لعام كامل، تربيت على الدلال، برغم حماقتي وقبح لساني، أجل أنا ذلك العاق، ومع من!؟ جدتي نجيبة، القلب الودود، التي فارقتني دون وداع.

 

وأنا بسن العاشرة توفي والداى وأخي الوحيد جلال بحادث مأساوى، يوم الجنازة كان مهيبًا، كل البلدة تبكي، بل تولول، إلا جدتي نجيبة وجدتها تقف فوق جثمان أبي وهي تبتسم، أصابني ضرب من الجنون، كيف لها أن تكون سعيدة وهي ترى ابنها الوحيد في نعشه، أي هراء هذا الذي أرى، لابد أنها مختلة، أو ربما السن قد فعل بها أفعايله فأصبحت خرفة، فهي في الثمانين من عمرها، وعدت نفسي بأن أثأر لعائلتي منها وبالذات لإبنها أبي الحبيب.

 

أعوام تجر أعوام وأنا المشاكس اللعين، لا أنفذ لها أمرًا، دائم السخط، كثير اللوم، حاد الطبع، دموعها لا تجف، تجري من مقلتيها ليل نهار وأنا اتمادى وهي تردد:

– الهادي سيهديك، يا أعز الِولد..

زاد بطشي بكل عابر، لامها الجميع على التقصير في تربيتي، ومع أن لي عمتين إلا أنهما رفضا احتضاني مع صغارهم، معللين أني فاسد وسأفسد تربية أبنائهم.

لم ترد على اتهاماتهم لها، صمتت واحتسبت عند الله ، نفقاتي تزيد، مطالبي لا تنتهي، مدارس أجنبية، جامعة خاصة، أنفقت كل مدخراتها، باعت مصوغاتها الذهبية كاملة، لم أشكرها يومًا، فقط أقابل كل احتضان منها بالصد والجحود، وقفت تلك الابتسامة حائلًا صلدًا بيني وبينها والغريب أني لم أحاول يومًا سؤالها عنها.

 

في صباح اليوم وردنا اتصال هاتفي بأن اخاها الصغير درويش قد وافته المنيه، طلب منها حضور الدفن والجنازة .

 

ولأنها قد قاربت التسعين، اضطررت للذهاب معها ، مشيت مكبلًا بحنقي، أسند يديها وأود تمزيقهما، وصلنا للجثمان ورأيتها تبتسم للمرة الثانية، جن جنوني، سوف أنقض عليها واسقطها جثة هامدة بجوار أخيها، إلا أنها قطعت هواجسي وهي تخاطبه بحنو عجيب:

_ حبيبي.. لا تخف أنت الآن بين يدي الله، عنده الرحمة والمغفرة،

ومقابلة الأحباب، لا تنسى أرسل سلامي لأبني كما أرسلته معه سابقًا لوالدينا ،أخبره بأني أتمزق لفراقه وأدعو له في كل سجود.

 

نظرت لها والذهول تملكني وجدت ابتسامة عجيبة على شفتيها، إنها أنين صامت مغلف بصبر الإيمان عند الابتلاء، استدارت وجدتها تجفف دموعها وتقول:

– إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اقبض على قلبي وأرضني بقضاءك.

 

سجدت لله وهي تبكي، اتسجد شكرًا عند البلاء!! من هذه السيدة؟! أهذه حقًا جدتي اللي بطشت بيها طيلة تلك الأعوام!

 

دلفوا للغرفة، أخرجونا كي يبدأوا في تجهيز الجثمان للغسل، أصاب جدتي دوار، ادخلتها غرفة السيدات، نزلت لأجلس وسط المعزين حتى فزعت من يد وضعت على كتفي…

زر الذهاب إلى الأعلى