أدبي

قرآننا زاد الرحلة

وقت النشر : 2024/01/22 02:52:52 AM

قرآننا زاد الرحلة

بقلم: عبير سعد

يتعالى صوت الأذان في المسجد القريب، تحملني فجوة زمنية في رحلة عودة لوقت كانت تساعدني فيه أمي لأتوضأ للصلاة، أحمل حجابي ومصحفي، وأسرع للحاق بصلاة الجماعة مع صويحباتي الصغيرات داخل الحجرة الملحقة بالمسجد والمخصصة لتحفيظ القرآن الكريم وتجويده.

نتلصص على الرجال من خلف الأبواب الضخمة منبهرين باتساع صحن المسجد وجمال القِبلة المزخرفة الملفت لأنظارنا وقلوبنا، وهناك عن يمينها تقف المكتبة الخشبية الكبيرة التي تحمل نسخًا مختلفة الأحجام والأشكال من المصاحف وكتب التفسير القيمة بأغلفتها العتيقة، تمتد إليها بعض الأيادي لتختار أحدها، تراهم جلوسًا في ركن من المسجد يستمتعون بالتلاوة سرًا والإطلاع حتى تقام الصلاة..

همهمات من التسبيح والحوقلة تتناهى لأسماعنا الفضولية، وكأنها سيمفونية تنبض بالحياة، البعض يخرج من باب الميضأة مشمرًا عن زراعين يقطر منهما الماء حاملًا بعض الذنوب لتتساقط مغفورة بوعد من الله، والبعض الآخر ينظم الصفوف استعدادًا للوقوف خلف الإمام، منتظرين الدخول إلى ملكوت آخر في حضرة رب العالمين..

دقائق تمر علينا في سعادة نشارك فيها الكبار هذه الحالة الوجدانية الرائعة، نقف في ركن قصي نحاول تقليدهم في حركات الصلاة قيامًا وركوعًا وسجودًا، يبهرنا صوت شيخنا الصادح بالتلاوة والتكبير، ننظر إليه بإجلال ورهبة، منتظرين أن يوالينا إلى حلقة التجويد بعد التسليم من الصلاة..

رجل طبعت ملامحه في ذاكرة الأيام الهانئة، بجلبابه الرمادي الفضفاض، وغطاء رأسه الأزهري المميز، يخطو بقامته الفارعة خطواتًا ثابتة على الرغم من فقدانه البصر؛ لكن نور بصيرته خير دليل يرشده بين أعمدة المسجد التي طُبعت في مخيلته، فأصبح يتنقل بين ربوعها وكأنه يراها رأي العين، يحمل بيمناه عصًا رفيعة طويلة لا يستخدمها أبدًا للعقاب، لكنه يهش بها علينا إذا طغت طفولتنا المُشاكِسة على عقولنا وهدوء مجلسنا، وله فيها مآرب أخرى..

نتحلق في أقصى الركن الأيمن من المسجد حول شيخنا الجالس على كرسيه في وسط تجمعنا، تراه وقد سقطت على محياه أشعة من ضوء الشمس المتسللة بين مربعات الأرابيسك المزينة للنافذة القريبة، فتتألق على بياض أسنانه حين يبتسم لنا، يقرأ القرآن مجودًا آياته بصوت أجش حمل نغمةً مُحببة للقلوب، ونحن نردد من خلفه مقلدين له لفظًا ونطقًا وتجويدًا، حتى في اهتزازات جسده الرتيبة للأمام والخلف، فترانا انعكاس له في صور مصغرة شتى، نمتص “نتشرب” حركاته وسكناته، نطقه وشرحه للمعاني المستترة كالصحراء المشتاقة لبعض الغيث ليحييها.

تبلغ سعادتنا ذروتها حين يجود علينا ببعض من قصص الأنبياء في القرآن، فنجلس فاغري أفواهنا، عجبًا كيف ألقت أم موسى برضيعها إلى اليم وقلبها ينطق ثقةً بالله رغم الخوف، وكيف عطل الله نواميس الكون حين قال للنار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم ليبُهت من كفر حين يراه وسط النار آمنًا، وكيف خرج يوسف من الجُب إلي رحلة عصيبة من البدو إلى القصور ثم السجون لتنتهي به عزيزًا لمصر..

أمسك بقلمي بعد ما يربو على ثلاث عقود كاملة، تداعب مخيلتي ذكريات قلب نشأ عاشقًا لآيات الذكر الحكيم، أتذكر كيف كنا نبدأ روتيننا اليومي على صوت الشيخ محمد رفعت يتردد عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، حاملًا البركة لملايين البيوت التي تتقاسم هذه النعمة كزاد يحيي القلوب ويروي بوارها.

أتذكر شيخي بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع وهو يطوف ببيوت بلدتنا الصغيرة حاملًا مسك فرقانه لينثره هنا وهناك، نستعد لاستقباله كعيد أسبوعي، نشعل أعواد البخور الرائعة الرائحة، نجهز مجلسه في صالة البيت ليتوسطه، نتجمع حوله، نتسمع لتلاوته، وفي بعض الأحيان تطلب منه أمي أن يقرأ الرقية الشرعية على أحدنا لسوء أصابه؛ لتحل عليه بركة القرآن وشفاءً من عند الله.

سنوات من العمر تتطاير مسرعة، ومع كل يوم جديد أرى انعكاس هذه السنوات جليًا في كل تفاصيلي، أراه في تفكيري الذي جُبل على أحكام ديني التي سقنيها شيخي في حلقاته، أراه في حروفي حين أخطها فتتجسد أمامي قصص القرآن لفظًا ومعنى، لترمي بظلالها على أسلوبي وفكري.

أرى يوسف يسكن حروفي، أتخيله أيقونة من بهاء، وزليخة أيقونة العشق الخالدة في كل الحكايا، يعقوب يهمس في أذني “وأفوض أمري إلى الله”، أِخوة يوسف حين زين لهم الشيطان السوء، و أسمع غرغرات فرعون حين طغى الماء ليلهمني نهاية كل ظلام كفور، أرى ابني آدم لأعلم أن الله لا يتقبل إلا طيبًا فأدسها يقينًا بين كلماتي ليعلمها كل من تقع عيناه عليها.

  أراها حين تتجلى أسراره لتربت على القلوب حين شرود ومعاناة، فتكون طوق النجاة وسفينته، حين أنظر صفحات كتاب حياتي فأراني طفلة تسعى لتنهل من القرآن، لأصبح أمًا ترجو أن ينعم الله على أولادها بصحبته، أراه في آمالي أن يكون رفيق قبري، نورًا يذهب وحشة روحي في وحدتها.

أجلس غارقة في سيل ذكرياتي الجميلة، أمشط شعر صغيرتي، تغمر وجهي ابتسامه حين أتذكر شرائط الساتان الملونة التي كانت تضعها أمي في جدائل شعري وأتمنى لو أضع مثلها لابنتي، أجهز ثيابها الخاصة بالمسجد، تطير في أرجاء الغرفة كنحلة نشيطة تدندن بوِردها وتراجع آياته، تنتظر أن يعلو الأذان في نفس المسجد القريب من منزلنا، لتسرع إلى نفس المكان، في نفس الزاوية، بجانب النافذة ذات النقوش الخشبية العتيقة، لتتحلق هي وأقرانها حول شيخها الذي جاء خلفًا لخير سلف.

 حالة من النشاط الفائق تدور بين الحلقات، فقد صار شهر القرآن قاب قوسين أو أدنى، تستعد المساجد بكرنفال من الإضاءات الملونة حول المئذنة الشامخة وعلى جوانب المسجد، لتُحيله أيقونة من الجمال المبهج للنفوس، أكاد أسمع التلاوة في صلاة التروايح والتهجد،

تصدح في كل المساجد في نفس الوقت، وكأنها موعد تجتمع فيه قلوب الأمة الإسلامية على قلب رجل واحد، يجلس في الحضرة الإلهية، يثني على الله ويرسل الصلوات على رسوله لتعود سلامًا ورحمة تتنزل من فوق سبع سماوات، على كل مجلس ذكر، وكل تالٍ للقرآن مسبح بحمد ربه، تأتي أيام العتق من النيران، وتقام مجالس مسابقات القرآن، يشترك فيها آلاف من الأطفال صغارًا وكبارًا.

عشرات الحلقات ترفع شعار “وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”، فتستقبل بكل الحفاوة من حفظ ولو جزءًا من كتاب الله، وتتفاوت الدرجات فتعلو كلما زاد الزاد، حتى تقام الأعراس فرحًا بحبات القلوب ممن أتموا حفظه كاملًا، فيكون التكريم في حفل سنوي كبير وسط دعوات كل الحاضرين أن يرزق أبناءنا مثلهم وزيادة.

 ويستمر القرآن دائمًا وأبدًا الحياة لقلوبنا جيلًا بعد جيل، وصدق الله العظيم حين يقول ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” .

 

 

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى