أدبيمقالات متنوعة

“تلك المرآة هي أنا” الحلقة التاسعة

وقت النشر : 2023/12/11 08:12:25 PM

“تلك المرآة هي أنا” الحلقة التاسعة

بقلم: الكاتب الروائي حسن العربي

هكذا مرت الليلة  فى الغرفة الثامنة الدور الثاني من المستشفى، وعندما بدأت الشمس في إشراقةِ يومٍ جديدٍ دبت الحياة في المستشفى بأكملها، وبدأ كل من كمال وليلى فى الاستعداد للقاء المجهول المنتظر.

فى صباح اليوم التالي بدأ يتوافد على الغرفة؛ على التوالي، كل من الممرضات والأطباء أثناء قيامهم بالزيارة الدورية التي يجوبون فيها كل الغرف، إلا أنهم هنا يتوقفون قليلًا ويعطون صاحبة هذه الغرفة اهتمامًا أكبر، فهذه الغرفة قد تم التوصية عليها بصفة خاصة، ولأن حالتها كما يتكهن الجميع ستكون طويلة وخطيرة.

كانت تعليماتي واضحة إلى مشرف الدور الثاني بالاهتمام الخاص بالغرفة مائتين وثمانية وتسهيل أي شئ يمكن أن تطلبه النزيلة أو المرافق أيًّا كانت الطلبات، وكنت قد أخبرتهم بكل وضوح باستدعائي إذا حدث أي طارئ في حالة المريضة.

توجهت إلى الغرفة مباشرة عند وصولي متحفزة حتى أخبر ليلى وكمال بأن كل شئ فى البيت على ما يرام، وإنني قد التقيت بالبنات وإنني سوف أسعى لإحضارهن فى أقرب فرصة، فقط أنتظر أن تمر مرحلة الاختبارات والتحاليل، ومن يدري ربما نقرر أن تكمل ليلى علاجها فى البيت.

وصلت إلى الغرفة واندمجت مع الجمع، وصَبَّحت على ليلى واحتضنتها بقوة وحرارة لم أعتدها مع أحد، وكان حضنًا تلقائيًا قد أدهش كمال، بل وأدهشني أنا الأخرى وتخيلته لم يزل يتابع خطواتي من بعيد.

ثم توجهت إلى د.منصور الذي كان ينتظر وصولي إليه ثم سحبني من يدي وخرجنا معًا حيث توجهنا إلى مكتبه مباشرةً، وكان طوال الطريق يشرح لي بوضوح تام ما يراه من خطورة الموقف فقد كانت كل توقعاته هي أننا أمام حالة ورم فى المخ فى مرحلة متقدمة من نموه، وإنه قد بدأ في الضغط على بعض الأعصاب مما  تسبب فى هذه الحالة من الصرع التي ما زالت تمر بها، وإن كانت حدتها تخف عندما تتلقى الدواء.

وبينما هو يتحدث إليّ كنت أتذكر إلحاحه عليّ لنتزوج ورفضي المستمر رغم وسامته واحترامي الشديد لشخصه ولعلمه، إلا أنني كنت أرفض تمامًا أن أكون زوجة ثانية، سواء كان هذا الزواج سرًا أو حتى جهرًا، كما أن قلبي لم يكن يميل إليه، وهذا هو الأهم، أما هو فقد كان ينتهز الفرصة من حين إلى آخر  ليذكرني بأن رغبته لازالت مستمرة وأنه فقط ينتظر إشارة مني.

كنت أستمع إليه وأفكر فى حالة ليلى فقط، كما أنني كنت أتوقع كل كلمة مما قاله؛ لما لي من علم و خبرة فى هذا المجال ولكنني بعد أن شرح كل ما عنده استوقفته محاورة:

لكن يا دكتور أولًا وأخيرًا الأعمار بيد الله، وثانيًا نحن لم نقم بعد بأية اختبارات أو تحاليل، فدعنا مما نعرفه علميًا من الشواهد وهيا بنا نسعى لأن تعيش ليلى ما تبقى لها من العمر فى أحسن حال! 

نعم أنت محقة فيما تقولين دكتورة آمال، وأتصور أننا مع بداية الفحص يجب أن نعرض ليلى على الطبيب النفسي أيضًا، كما تعلمين أهمية الدعم النفسي فى هذه الحالات.

حقًا لقد سبقتني فقد كنت أريد فعلًا أن أسألك أن تكتب لليلى أن تبدأ لقاءً وديًا مع الدكتور رشاد؛ فقد أثبت مهارة كبيرة فى مجاله هذا، ثم إنني أعتقد أننا يجب أن نسمح بزيارة أطفالها أو السماح لها بالعلاج من البيت.

لا طبعًا يا دكتورة، بالنسبة لزيارة الأطفال أكيد لكن لا حديث عن خروج المريضة قبل أن نعرف بالضبط طبيعة الورم وإلى أين وصل!

نعم من المؤكد أننا سننفذ ما تأمر به، وسوف ندعو الله لها بالشفاء يا دكتور.

هنا نظر إليَّ متحديًا، وكأنه يعلن على مرأى من عينيّ أنه لا أمل!

انسحبت تساورني كل المتناقضات التي عهدتها في نفسي، والتي لم أعهدها.

كانت صابرين فى منتصف العشرينات فاشلة فى دراستها أنانية الطباع كما أنها لم تكن بالقدر الكافي من المسؤولية كي تتحمل صعوبة الموقف فى بيت ابن عمها كمال، كما أنها لم تكن تحب الأطفال على العموم، ولم يكن يروقها هذا الموقف الجديد، وكل ما كان يعجبها فيه هو أنها هربت من سيطرة أبيها وزوجته التي كانت تلاحقها باللعنات والسباب فى كل مرة كانت تجلس على الهاتف أو تحب أن تخرج لمقابلة أصحابها وانتهزت فرصة خروجها من تحت سيطرتهم حتى تقضي وقتها كما تحب.

عوضًا عن قيامها بالاهتمام ببنات كمال فى غيابه فإذا بها تمضي الوقت أمام التلفاز متجولة بين قنواته وبرامجه الهدامة أو فى أغلب الأحيان على الهاتف بين برامج التواصل الاجتماعي والمحادثات الطويلة مع أصدقائها وصديقاتها.

عرفت ريم منذ الوهلة الأولى أن شيئًا خطيرًا قد حدث لأمها، وأن كل ما يدور من أحداث فى البيت إنما هي نتيجة لغياب أمها التي كانت أكثر البنات ارتباطًا بها وحبًا لها، ربما لما كانت تعطيه لها من براحٍ عند المناقشة، حتى أنها كانت تأخذها كصديقة لا كأم فى أغلب الأحيان، وقد برعت ليلى فى هذا والكثير من الأشياء الأخرى وهي تربي بناتها ورغم أن ريم لم تتعد العاشرة من عمرها، لكنها بالمقارنة تعتبر أكثر مسؤولية من هذه الدخيلة التي احتلت مقعد أمها، وتمضي وقتها بين الغناء والرقص أمام التلفاز تارة والفيس بوك تارة أخرى.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى