أدبيمقالات متنوعة

“تلك المرآة هي أنا” الحلقة العاشرة

وقت النشر : 2023/12/14 11:10:47 AM

“تلك المرآة هي أنا” الحلقة العاشرة

بقلم: الكاتب الروائي حسن العربي

قضت ريم أغلب الوقت فى غرفتها مع مريم وإنجي، وكانت تقوم هي برعايتهما على قدر ما تستطيع، وعلى قدر ما كانت قد تعلمته من أمها عندما كانت تجمعهن فوق سريرها، وتحضر قصص وروايات الأطفال لتروي لهن منها حتى يغلبهن النوم

لم يكن اجتهاد ريم رغم صغر سنها إلا حصادًا واضحًا، فمن اللحظة الأولى ظهرت آثار تربيتها على تحمل المسؤولية ودفء الحب الذى كان يخرج من النبع الصادق أمها، ولم تعبأ نهائيًا بوجود صابرين، وفي تلقائية شديدة اعتبرتها دخيلة على المنزل، ولن تستمر كثيرًا.

بين تساؤلات مريم المستمرة عن أين أمي وأين أبي وبكاء إنجي أحيانًا وطلباتها التي لا تنتهي، وغياب صابرين نهائيًا عن الساحة وعما كانت قد استدعيت إليه، بدأت ريم تشعر بثقل الحمل فهي ليست إلا طفلة صغيرة.

من الغريب أنني بدأت أشعر إنه بعد أن كان الوقت يمر بي بطيئًا بين مرآتي الغاضبة ومقعدي السحري أراني الآن والوقت يقفز بي بل ويجري مسرعًا، وأكاد لا أستطيع أن أفعل إلا القليل مما أرغب فى القيام به، فجأة وجدتني بين أمواج متتالية أحيانًا مُتلاطمة أحيانًا أخرى من كثرة الواجبات التي فرضتها على نفسي فجأة، وعلى رأسها علاج ليلى، ثم هناك الاهتمام بالأطفال ورعايتهم وكمال، هو أيضًا يحتاج من يهتم به في هذه الأزمة!

كان اليوم طويلًا بكل المعاني، بين فحوصات وتحاليل وأشعة كانت تتطلب انتقال ليلى أحيانًا من دورٍ إلى آخر لأخذ العينات وإتمام البحوث المطلوبة. رغم كل هذا المجهود إلا إنني كنت أشعر بنشوة الحياة، وكأن الحياة التي تركتني وحيدة حقبة من الزمن قد انتهت، وكأنني عُدت أحيا وأتحرك مع الأحياء.

اتكأ الدكتور منصور بظهره على هذا الكرسي الذي يبدو وكأنه صنع خصيصًا له ثم استدار به فى مواجهة النافذة التي تقبع هناك فى ظهر مكتبه، ثم نظر حوله كأنه يتأكد أن أحدًا لا يراقبه رغم أنَّ مكتبه الخاص، والذي لا يدخله أي شخص فى المستشفى كلها إلا بإذنه وفي وجوده!

فتح أحد الأدراج أثناء استدارته للخلف وسحب منه سيجارًا كوبيًا يخفيه هناك ويخرجه من حين إلى آخر عندما يحب أن يخلو بنفسه في مكتبه، ثم أشعل السيجار، وهو يتأرجح على الكرسي، فى مواجهة الشباك وينفث دخانه في كل مكان فيتصاعد إلى السماء وهو يتابعه بعينيه، وكأنه يبحث فى موجاته المتصاعدة عن بعض الكلمات أو كأنه يرتب أفكاره وماذا؟ وكيف؟ وكل التساؤلات التي يطرحها عادة على نفسه قبل أن يجمع الأطباء والمختصين ليلقي عليهم رأيه فى حالة معينة وكيفية احتوائها والتعامل معها.

خرج الدكتور منصور فى هذه الرحلة التأملية، عيناه مرتفعتان إلى السماء وكأنه يقلب الأوراق وكل المستندات التي قدمت إليه من نتائج الفحص الذري والتحاليل ورسم المخ والرنين، وكأنه يقلب فى كل هذه الأوراق باحثًا فيها عن مخرج أو أية إشارة قد تغير نظرته الأولى عن حالة ليلى!

كان قد أخذ حالتها وكأنها أقرب الناس إليه، زوجته أو ابنته أو أمه أو أخته، وهذا ما كان يفرق بينه وبين الكثير من الأطباء فى هذا المجال، كونه يتعامل بحسٍ إنساني عالٍ مع جميع مرضاه وهوالشيء نفسه الذي جعل منه أكثر الأطباء شهرة وخبرة.

عبثًا ضاعت كل محاولاته في البحث، ثم استدار بكرسيه وأطفأ سيجاره ورن الجرس مستدعيًا أحد العاملين والذي جاءه مسرعًا فبادره:

كنت قد استدعيت المجموعة التي تعالج الأستاذة ليلى فى الغرفة رقم مائتين وثمانية. 

نعم يا دكتور هم بالخارج.

إذًا دعهم يدخلون وأحضر لي فنجان قهوة مظبوط من فضلك.

تأمر يا فندم.

بعد قليل، دخل الدكتور على المساعد ومشرف الحالة والدكتور رشاد الطبيب النفسي، جلس ثلاثتهم يتحاورون حول النتائج وكيفية التعامل مع الحالة والأسرة، وأهم نقطة كانوا يتفاوضون عليها هي جدوى القيام بعملية استئصال للورم أم من الأفضل الاكتفاء بالعلاج المعتاد من أشعة وعلاج كيميائي، واتفقوا أنه في كل الأحوال هناك عملية أولية لابد منها وهي عملية سحب عينة من الورم  للتأكد من طَبيعته ودرجة تطوره!

كنت أنتظر في الخارج فقد استدعاني الدكتور منصور لإبلاغي بما يقره الكونسلتو بعد دراسة نتائج الفحوصات والتحاليل والأشعة، وكنت أعرف مسبقًا من خبرتي أن الأيام المقبلة لن تكون سهلة على كمال وأسرته، وخاصة أنني أعرف جيدًا المراحل التي يمر بها المريض عند  الصدمة الأولى عند تلقي الخبر ثم يمر بمرحلة الإنكار وعدم التصديق والتي تأتي بعدها مرحلة يحتج فيها على المرض ويرفض الاعتراف به وبوجوده كما لو أنه يقول:

لماذا أنا تحديدًا وماذا فعلت لكي أصاب بهذا المرض اللعين؟

بعدها تأتي مرحلة يدخل فيها المريض فى حالة اكتئاب نفسي. 

ثم أخيرًا يأتي الاستسلام والقبول. 

هذه المراحل تعودت أن أراها فى كل مرضى السرطان تقريبا!

لم أنتظر كثيرًا حتى فتح باب الغرفة عليّ الدكتور منصور والدكتور علي والدكتور رشاد، وقد بدت عليهم الجدية بيد أنه يخبرني بما أعرف!

التفت إليّ وهو يلقي عليهم تعليماته الأخيرة ثم قال:

تفضلي 

زر الذهاب إلى الأعلى