أدبيمقالات متنوعة

“تلك المرآة هي أنا” الحلقة 11

وقت النشر : 2023/12/18 08:46:16 PM

“تلك المرآة هي أنا” 11

بقلم: الكاتب والروائي حسن العربي

دخلت إلى الغرفة ورائحة الدخان تزعجني وهو يعلم ذلك جيدًا 

ثم تساءلت في نفسي: لماذا ذهب هؤلاء؟

رغم معرفتي جيدًا أنَّه يتصيد دائمًا المناسبات ليخلو بي لعلي أوافقه يومًا على رغبته، الأمر الذي يعلم وأعلم أنه مرفوض تمامًا.

ثم توجهت إليه:

حضرتك استدعيتني، خيرًا إن شاء الله.

الحقيقة، كما ترين كنت فى اجتماع مع الأطباء المسؤولين عن حالة الأستاذة ليلى، ووددت لو تشاركينا تنفيذ الخطة المستقبلية المطروحة للحالة.

لا شك فى ذلك، ومن المؤكد أنني أساعد بكل ما أملك من قوة.  

لا شك أن كل الأدلة والنتائج تشير إلى سرطان فى المخ، وهذا يترتب عليه بعض الإجراءات: 

        أولها: مصارحة ليلى وأسرتها بحقيقة ونوعية المرض.

         ثانيًا: نرى أنه يجب علينا عمل جراحة لأخذ عينة من الورم للفحص الدقيق.

         ثالثًا: البدء في العلاج الأولي من أشعة وعلاج كيميائي. 

كما يجب ألا ننسى استخدام الرعاية التلطيفية معها هي والأسرة في المرحلة الأولية والدعم النفسي، وحضرتك تعلمين أهميتها فى هذه الحالات.

هذا مؤكد يا دكتور، بث الأمل فى المريض وأسرته وعدم إظهار مشاعر الشفقة شئ مهم جدًا، كما أن إحياء الجانب الديني له أثاره الطيبة، وهذا أيضًا مهم جدًا حضرتك! 

نظرت إليه بنصف عين، وهو يتقبل الجملة الأخيرة وكأنه لم يسمعها لما أعرفه عنه من عدم اكتراث بالدين أصلًا!

واستطردت:

كما أعرف أيضًا بالخبرة إنه من الضروري إقحام المريض في بعض الأنشطة الأسرية ورفع معنوياته، تلميذتك يا دكتور. 

نظر إليّ بارتياح وهو يعدل من هيئته ثم عاود قائلًا:

ما رأيك لو تحضرين معنا غدًا عند مروري حتى أشرح لهم ماهية المرض وخطوات العلاج.

لا مانع على الإطلاق بل أرحب جدًا، فلا تنس أنهم أيضًا جيراني منذ زمن بعيد.

وقفتُ أناظرني أمامها والإعياء قد حفر علاماته على وجهي، هذا السواد تحت عينيّ، وهذا الانكسار المرسوم كأنني خرجت لتوي من معركة حامية الوطيس كنت فيها المنتصر والمهزوم معًا!

فبادرتني مسرعةً وهي تحملق في أغواري ولا تكتفي بنفسي المرهفة المتعبة، لا بل تتسلل بخبثها إلى عقلي وجسدي وعيني لتكشف عني كل عوراتي:

ما هي آخر الأخبار عزيزتي؟ 

أي أخبار؟ ليس لدي أخبار، دعيني وحدي فلست على مرام اليوم. 

هل هذا أحد أنواع الهروب أم ماذا نطلق عليه؟ 

ربما إرهاق، يأس، مليون شئ متشابك فى بعضه البعض، وبصراحة لقد ضقت بك وضقت منك ومن كل تدخلاتك وتدقيقك معي فى كل صغيرة وكبيرة أقوم بها، وفاض كيلي منك هل تفهمين؟! زهقت.

ماذا يعني هذا؟ ألا تريدين أن تروي لي ماذا فعلت مع كمال؟ 

اصمتي، الأستاذ كمال فيه ما يكفيه المسكين، يحتاج إلى من يقف بجواره ويعاونه فى المحنة التي يمر بها.

على من تضحكين عليّ، أم عليك؟

تريدين إقناعي أنك تقدمين خدماتكالإنسانية خاوية من أيةِ أفكار أو أغراض أخرى، وإن كان هذا صحيحًا صارحيني لماذا تتزينين إذًا فى كل مرة تعرفين بوجوده، يا حبيبتي كل منا يعرف الآخر جيدًا فلا تكذبي على نفسك كوني واضحةً ولا تخدعي نفسك!

ثم أنَّهُ كان أمامك الدكتور منصور، وهو يرغب فيكِ، ويتحسس المناسبات ليختلي بك لعلك توافقين عليه، وكل منهما متزوج ولا فارق بينهما!

هذا كثير وأنا مجهدةٌ جدًا من كثرة تلميحاتِك.

 تركتها وقد أخذ الغيظ مني مكانه فهي لا تقول إلا الحق، وأنا أعلم، ولكن يبدو أنني أُعاند نفسي، ثم جريتُ مسرعة إلى المقعد لأرحل معه فى عالم الخيال الذي أحبه، وأترك نفسي فى أحضان خيالاتي وتهيؤاتي التي عادت جزءً من حياتي.

يا إلهي كم أحبه وهو يأخذني من يدي ويرحل بي إلى هذا العالم الوردي، عالم الحب الحقيقي بين عبق الأزهارِ والورود ورائحتها الجميلة فى جنان لا يسكنها أحد إلا أنا ومحبوبي الذي ذهب ولن يعود.

أعتقد أن حياتي الحقيقية تبدأ فقط عندما أجلس على هذا المقعد، فهو يعرف خيالي ويعطيني جرعتي من الحياة التي حرمت منها طوال تلك السنوات.

تعودت كل صباح أن أنظر هناك فوق الشجرة أراقب عودته ومعشوقته لعلي أراهما ثانية؛ ولكنه لا يعود، بيد أنه يتمتع معها فى مكان ما بعيدًا عني!

ثم أعاود تساؤلاتي التي لا تنتهي وتراودني كل ليلة:

وأنا؟ متى أعيش واستمتع مثله؟

ثم بدأت استعد للجلد الصباحي منها، وأخذت خُطواتي تتجه نحوها لألقي عليها نظرة أخيرة قبل الخروج إلى معركة يوم جديد فبادرتني مسرعةً قبل أن أتمم عملية هروبي منها، ورمت على مسمعي سهمًا ضربني فى صميمِ قلبي، جملة هزتني ولمست مشاعري كلها:

احذري؛ فزوجته مريضة وتحتاج إليه أكثر منك!

ياربي، أف منك!! تعليقاتك الصباحية السخيفة، ألا تتركين شيئًا دون تعليق؟ أنا على علم أكيد بكل ما تُنوهين عنه.

ثم انسحبت مسرعةً من أمامها وتوجهت إلى طاقة الحب والحنان اليومية التي فتحها القدر على مصراعيها أمامي، فقد أصبحت جرعة الأحضان اليومية من الفتيات الثلاث تنعشني وتجعلني أبدأ  يومي فى أحسن حال خاصة جيجي هذا الكائن الجميل الصغير، والتي بدأت أحس بحبها لي، وأنها أكثرهن انجذابًا نحوي، وانتظار كل صباح ومساء عندما أدق الباب لأطمئن عليهن.

كما أنني بدأت ألاحظ تصرفات صابرين وعدم اكتراثها بالبنات، وبدأت أضجر منها ومن أسلوبها في الكلام، وحتى طريقة ارتدائها لثيابها، ووددت أن ألفت نظر كمال لكل هذا لكنني كنت أخشى أن يبادرني بأنه ليس من شأني، أو يدافع عنها؛ فهي في نهاية الأمر بنت عمه ومن المؤكد أنَّهُ يعرفها جيدًا، كم أود أن يكون كل هذا من شأني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى