أدبيمقالات متنوعة

الرحمن

وقت النشر : 2024/03/31 05:10:37 PM

الرحمن

بقلم: هبة محمد زغلول

هنا في هذا المكان كل شئ يتحرك بسرعة جنونية؛ الأشخاص والأصوات والمعدات كل شئ يمر أمامي عيني سريعًا، إلا الزمن فإنه يتوقف ولا يمر بل أنه يتباطأ وأحيانًا يعود بي إلى الوراء، إلى حيث كنت هناك أنا وسارة في المركز التجاري.

فاليوم هو عيد ميلاد ابنتي الرابع عشر، في مثل ذلك اليوم كُتب تاريخ ميلاد أمومتي المستجداة لاثنتي عشرة عامًا قبل ذلك اليوم، هو يوم قبول البشرى.

لم أشك يومًا في معية الله معي في كل لحظات تردي الأمل وذروة الألم ما بين العلاجات والعمليات ولكن كان دائما الإخفاق هو سيد الموقف، إلى أن جاء موعد العملية السابعة ليمسك جمال بيدي ويشد عليها وهو يخبرني خوفه عليّ وعدم ضرورة إجراء العملية، وتعرُضي للحقن والتعليمات والتحذيرات لشهور طويلة ويتبعها ذلك الذبول والشحوب حد الموت في كل مرة، ويُعيدُ على مسامعي حبه لي واكتفاؤه بي كزوجة وأسرة ووطن بآسره.

أنظر إليه بأسى وأنا أعلم كم اشتياقه لأن يصبح أب ويحمل بضعة منه بين ذراعيه، تعتصر كلماته قلبي وأنا أعلم حقيقة مشاعره وإن كنت لا أسمعها، ولكن هو يعلم كم أشتياقي أنا الأخرى وكم معاناتي لأحقق لنا ما نحلم به؛ أنا أيضًا لم أبوح وهو لم يسمعني، ولكن كلانا تقاسمنا الجُرح والحُلم ذاته.

وعلى باب حجرة العمليات أخبرته بصوتٍ مسموع هذه المرة أنا أيضًا خائفة ولكنني على يقين أن الله يسمع دعاءنا وتضرعنا إليه في كل ليلة ولن يضيعنا وابتسم لي بابتسامة راضية يشوبها القليل من القلق.
لتمر بعدها الأيام والشهور ثقال، وكلما ثقل حملي زاد ترقبي وخوفي إلى أن جاء اليوم الذي حقق لنا الله فيه البشرى لتسري عن قلوبنا المشتاقة بعد ليالٍ طويلة من الرجاء والتوسل والدعاء. لقد رزقنا الله ابنتنا سارة واستودعناه أن يحفظها في ودائعة من كل شر وسوء يلحق بها.

حملها جمال بين يديه ذلك اليوم قطعة لحم حمراء دقيقة الحجم وهو يبكى ضحكًا، أما اليوم يحملها فتاة يافعة جميلة مخضبة بالدماء الحمراء ويبكي ويصرخ خوفًا، يلتقط من بين يديه أحد الأطباء بسرعة منه ويجري بها بعيدًا عن أعيننا يتفحصها بسرعة ومعه عدد من أفراد الطاقم الطبي بقسم الاستقبال .

مرة أخرى تتسارع الأحداث والحركات والأصوات بعشوائية لا قبل لي بها أو هكذا أحسبها وأنا أعود بالزمن مرة أخرى إلى الوراء، وكأنني أحاول أن أعبث بساعة القدر وأمنعها من الوصل لتلك اللحظة المفجعة.

على بوابة المركز التجاري أقف أنا وسارة نحمل أكياس الملابس الجديدة وزينة عيد الميلاد ونحمل معنا الفرحة والحماس لإعدادات ذلك اليوم الطويل الحافل بالمفاجآت، لنجد جمال يقف على الجانب الآخر من الطريق وعلى غير موعد متفق عليه يحمل بيده بالون هيليوم وردية كبيرة على شكل حرف “S” وبجواره على السيارة علبة مزينة كبيرة، لتصرخ سارة بحماسة الأطفال واندفاع الشباب وتُفلت الأكياس من يديها وتجرى نحو والدها الباسط ذراعيه استقبالًا لاحتضانها.
لتأتي بعدها تلك اللحظة التي أحاول أن أمتلكها ولا افلتها أبدا؛ لتمر من أمامي سيارة مسرعة تطيح بقوة شديدة بسارة.
يُفلت جمال البالون ليرتفع بعيدًا إلى الأعلى بينما ترتفع سارة في الهواء عاليًا لتسقط على الزجاج الأمامي للسيارة بارتطام مروع والدماء تملأ وجهها وكل أنحاء جسدها ولا نعرف له مصدر لتلوث كل ثيابها ووجهها به.

يعود بي الزمن مرة أخرى إلى المستشفى حيث حملناها مسرعين إليها ولا أعلم كيف وصلنا إليها أو كيف استطاع جمال أن يحملها وهي على هذه الحالة، الآن أنا أدرك أن الأمر بات حقيقيًا لا محالة وأن القدر والوقت نفذا من بين يدي وأن لا حيلة لي بهما.
أحاول أن أمر من بين أجساد الطاقم الطبي المحيط بها لتلتقطني يد جمال تحول بيني وبين الوصول إليها، أحاول مقاومته ليشد هو بيده على كتفي ويدفعني إلى الخلف بعيدًا عنهم لأسقط أرضًا وأنا أبكي وأنتحب بلا صوت وكأنني أخشى إذا سمع أحدًا صراخي فلا أسمع بعدها صوت ابنتي مرة أخرى.

يتقدم أحد الأطباء نحونا، لأتحامل على نفسي وأحاول النهوض من على الأرض ويخبرنا باقتضاب بوجود كسر بالجمجة ونزيف داخلي وضرورة الإسراع بعملية إلا أنه حجم الضرر الناجم عن الكسر لا يمكن تحديده بعد.
“نزيف داخلي! وماذا عن كل تلك الدماء وما مصدرها؟!” أصيح به بجنون وكأنه هو من يدعي الأمر، ليلتمس لي عذري ويرد بوضوح وأدب شديدين أن مصدر الدماء هو جروح سطحية متفرقة ناتجة من شظايا زجاج السيارة وأنها لا أهمية لها الآن أمام الحدث الجلل.

يتملكني الجنون من جديد لأرفع صوتي “عن أي كسر تتحدث رأس صغيرتي لا يحتمل ما تنوي فعله بها وقلبي أنا لا يحتمل ما تقول” يعيد على مسامعي بنبرة أكثر صرامة أنه لا يوجد وقت للنقاش وأنه يتم تحضير صغيرتي الآن للعملية وضرورة توقيع واستيفاء الشكل القانوني للأوراق، ودون أي كلمة يلتقط جمال الأوراق والقلم من يد الممرضة المصاحبة للطبيب ويوقعها دون أن ينظر بها حتى وقبل أن يغادرنا الطبيب يتكلم جمال للمرة الأولى من وقت وقوع الحادث “خد بالك منها وطمنها قولها متخافش بابا جنبك” أنظر أنا والطبيب إليه بقلق ليربت على كتفه ويطمأنه “هبلغها وهتسمعني بإذن الله، أدعولها أنتوا والله هو السميع الحكيم”

تمر الساعات وكأنها الدهر كله ونحن نتنقل بين أروقة وطوابق المستشفى في كل الإجراءات حتى ينتهي بنا المطاف بحجرة العناية الفائقة حيث ترقد صغيرتي دون حراك متصل جسدها الهزيل بكم هائل من الأسلاك والأنابيب والخراطيم ما بين أجهزة ومحاليل معلقة، ورأسها مضمد بالكامل بالشاش لا أعلم ما يوجد تحته.
تأتي الممرضة لتخبرنا بضرورة المغادرة والعودة في الغد حيث لا مجال ولاجدوى من الانتظار بعد الآن، وبعد كثير من الإلحاح نغادر في نهاية الأمر ليستقر بنا الحال في سيارتنا أمام المستشفى، لم نتحدث أنا أو جمال في تلك الليلة إلى بعضنا البعض، كان كل من يناجي ربه سرًا، لعله يستجيب وحتمًا أنه يسمع الدعاء.
وفي الصباح نعود أدراجنا حيث غرفة العناية الفائقة وسارة على حالتها لم يتغير حالها عن ما تركناها عليه بالأمس، يخبرنا الطبيب بأن عودة المؤشرات الحيوية لطبيعتها يحتاج إلى وقت، وأن سرعة الاستجابة من حالة إلى أخرى أمر نسبي ولكنه مؤشر هام على بداية استقرار الحالة وتجاوز مرحلة الخطر، وأنه الآن لا يملك لها أحد من الأمر شئ إلا الله فالأمر كله بيده ولا حول ولاقوة لنا إلا به.
أردد بصوت مسموع ” يا الله أنت تسمعنا وترانا أن تعلم سرنا وجهرنا أتوسل إليك أن لا نفقدها يا الله لا تضيعنا ”
يمر المزيد من الوقت ولا يتغير الحال ويتسرب اليأس إلى روحي ويتملكني الانهيار لأسقط في الدرك الأسفل من الجزع،
أنظر إلى الأجهزة المتعلقة بها فلا أجد لها من دليل أسترشد به ليطمئن قلبي، أعوي كذئب جريح وأنا أخبر جمال أنه انتهى الأمر وأن صغيرتي قد غادرتنا إلى الأبد ولن نراها مجددًا وما إلى ذلك من عبارات الفقد، يهزني جمال بقوة وكأنه يحاول إفاقتي من سحرٍ أو مسٍ لحق بي والدموع تفيض من عينيه وهو يردد قوله تعالى من سورة الأعراف ” وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”
أجهش بالبكاء وانا أردد ” إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ * وَإِخۡوَٰنُهُمۡ يَمُدُّونَهُمۡ فِي ٱلۡغَيِّ ثُمَّ لَا يُقۡصِرُونَ * وَإِذَا لَمۡ تَأۡتِهِم بِـَٔايَةٖ قَالُواْ لَوۡلَا ٱجۡتَبَيۡتَهَاۚ قُلۡ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ مِن رَّبِّيۚ هَٰذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ * وَٱذۡكُر رَّبَّكَ فِي نَفۡسِكَ تَضَرُّعٗا وَخِيفَةٗ وَدُونَ ٱلۡجَهۡرِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ * إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيُسَبِّحُونَهُۥ وَلَهُۥ يَسۡجُدُونَۤ۩ ”
يربت على كتفي بإشفاق يستحثني على السجود وبينما نحن ساجدين ندعو الله حبًا وخوفًا وطمعًا نسمع صوت ضعيف ينادي “م ما ماما أنا فين؟”
نرفع رأسينا من السجود لأجد سارة تنظر باتجاههنا، ليرتل جمال بتضرع وخشوع بالغ قوله تعالى من سورة الدخان ” رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى