أدبيمقالات متنوعة

الثانية فجرًا بقلم: منى أحمد إبراهيم

وقت النشر : 2024/06/08 04:51:55 PM

الثانية فجرًا

بقلم: منى أحمد إبراهيم

لم أنم كثيرًا.. على أي حال لا أنام كثيرًا في الآونة الأخيرة.. تفقدت المكان من حولي.. بالكاد أتذكره..
أتذكر هذه الغرفة.. تلك اللوحات والألوان.. والفرشاة الملقاة على الأرض..
أتذكر معها زمانًا لطالما نقشت كل مخيلتي على الأوراق.. ربما أيضًا تذكرني بروحي المرحة.. وضحكتي الصافية.. وشغفي وحماسي وحبي للحياة..
تلك الحياة التي غادرتني منذ الكثير من الوقت.. أو ربما سُرِقت مني دونما استئذان.. وعلى حين غفلة..
أو لعلي قدمتها قربانًا في لحظة اطمئنان.. حين شريت باقي حياتي بلحظات فانيات..
قربانٌ أرغمني على ترك كل ما أحب.. وأن أسلم راياتي وأشرعتي للرياح تعصف بي أينما تشاء..
غادرت شراييني مذاك رائحة الفانيلا النقية.. واستوطنها العطن.. في ذلك اليوم حين قطعت تذكرتي ذات الاتجاه الواحد والتي لا عودة منها ولا رجوع..
وأصدقكم القول.. لم أقاوم تلك المرة كثيرًا.. فلم يعد في العمر الكثير لأقاوم وأعافر وأسرف ما تبقى من روحي المنهكة..
أدخر ما تبقى منها لألتقط أنفاسي المعبقة بأتربة اليأس.. فقط لأبقى -اسمًا- على قيد الأحياء.. ولو أنني أتمنى لو تواريني أتربة الضجر التي تعتليني وتخمد ما تبقى في من مظاهر الحياة.. فأظل جالسة على الأرض أيامًا أفترشها وأنظر للعابرين من حولي..

“لطالما حلمت”
نعم أتذكر ذلك.. لطالما حلمت بالسعادة.. أملت قدومها وانتظرتها دون سأم أو ملل أو يأس.. اتبعت كل خيط قد يقودني إليها.. وفي كل مرة كان يخيب أملي كنت أنهض وأواصل البحث من جديد..
حتى سقطت تلك المرة.. ربما لم تؤلمني السقطة بقدر ما آلمني معرفة من دفعني للسقوط.. ولكن الأكثر إيلامًا من كل ذلك أنه كان لزامًا علي النهوض.. من أجل من حولي.. فأنا لم أطمع يومًا فيما لا أملكه.. ولم أطمع حتى يومًا في الحياة..
يومها أسرعت إلى غرفتي.. ولأول مرة مزقت كل ما أملك من ذكريات.. مزقت لوحاتي وقصفت أقلامي وسكبت كل أحباري.. ظللت أصرخ وأنعي زمانًا لم يعد بالإمكان إعادته ولا العودة إليه.. ولا العدول عنه..
أنهكني الصراخ.. وبينما أستدير واجهت مرآتي.. هالتني تلك العيون المقابلة لي.. سوداء لا حياة فيها.. باهتة وكأن نزيف الموت استهلك ما تبقى ببؤبؤها من حياة..
اعتراني حينها صمت أخير.. صمت أشبه بخيبة قيصر الذي خمدت أصواته بعدما طالته طعنة بروتوس.. تلك الخيبة التي تودي بالألوان والربيع والهواء..
لم تسعفني ضحكات العصافير.. وألوان الفراشات.. وهدهدات الليل.. لم تقدر حتى نسمات الفجر أن تمحو الظلام الذي طمس عالمي حينها وتعيد إليه الحياة.. فردت ذراعي واعتليت صفحة الماء تأخذني أمواجه كيفما تشاء.. سلمت ذهني للأوهام وذهبت معها تاركة روحي وحيدة تنعي فراق الزهور والأحلام والفراشات والعطور..

“كم هو صعب النسيان!”
يتصيد ما هو الأجمل بذاكرتي ويسرقه.. بينما يترك لفرشاتي كل ما هو سيء ومظلم.. تلك الفرشاة التي لطالما رسمت ضحكات الأطفال وعيون الأمهات وعناق الأصدقاء ودفء المحبين.. وأغدقت عليهم بالألوان والنبضات.. باتت الآن جافة.. فقدت هويتها وتخبطت بها السبل فصارت بلا هوية ولا ذاكرة..
تلاشى كل شيء في لحظة غدر.. وإثر طعنة ليس منها براء.. وخدعة متقنة أردتني فوق صخور اللهفة.. وعلى عتبات الحرمان..
وفوق مقصلة التعلق.. اغتيلت كل آمالي وأحلامي ولهفتي وطاقتي التي كانت تعينني على المضي في الحياة..
أخرج لي الحظ لسانه بتلك اللحظة وهو يرقص أمامي رقصة الموت.. ذلك الشبح الذي تنحني أمام رهبته الأبدان والأنفس.. ولكني رغم كل ذلك لم أستسلم.. نهضت وكلي عزم.. سأعيـــــــش..
ارتديت أجمل ثيابي.. وتأنقت.. وركضت نحو البحر.. ومعي فرشاتي ولوحتي البيضاء..
سأرسم تلك اللوحة التي كثيرًا ما أجلت رسمها.. سأرسم تلك الفتاة بيضاء القلب.. نقية الملامح.. سأجعلها ترتدي فستانها بلون البحر.. وألون عيونها بلون سماء الليل الصافي.. وشعرها بلون ستائره.. سأرسم لوحة الحياة..
فتاة رغم البرد تتدثر بدفء الشوارع الآمنة لتمحو ما وقر بأوصالها من رجفة وقشعريرة.. تقابل الظلام بظهرها وتصوب عينيها دومًا شطر الضياء..
سأدعها ترسم وردتها التي لطالما نزعتها أيادي الغدر والخذلان.. وتنعشها بألوان الأمل.. وترويها بمياه الأمان.. لتعيد إليها الحياة..
ستجلس بجوارها على شاطئ البحر تنتظر أن تتفتح بتلاتها فتتفتح معها الأيام والساعات.. وتعود معها الحواس والأنفاس.. فتجني رحيق زهرتها وتعتلي أوراقها صاعدة نحو أرجوحتها هناك..
………..بجوار القمر…………..
حيث ستتحقق أحلامها وتعود لها الروح من جديد وتكون بطلة تلك اللوحة الرائعة..
“لوحة دافنشي”
تلك اللوحة التي رسمت بروح صادقة.. وعيون محبة.. وقلب لا يعرف الزيف.. وبأيدٍ حنون.. وأنامـــــــل..

زر الذهاب إلى الأعلى