أدبي

جريمةٌ من وهم

وقت النشر : 2021/12/07 04:03:42 PM

جريمةٌ من وهم

قصة قصيرة

بقلم: إبراهيم بن عمر 

 

ذات صلة

وسط الغابة التفَّ المحقق وعناصره حول قبر جديد كُتب عليه “أيها المارون من هنا، لا تُثيروا الضجيج فهنا ترقد ضحيتي الأولى” .

جريمةٌ من وهم 

الصمت يعم المكان وحالة من الذهول تسيطر على الجميع. ضرب المحقق الأرض بقدمه وصرخ قائلًا: هذا تحدٍ لنا واستهزاء بوجودنا، أين أنتم، ألم تلحظ دورياتكم شيئًا ليلة البارحة؟ 

انبشوا القبر وأحضروا الجثة لعلنا نجد ما يدلنا على المجرم. 

أنهى كلامه متفحصًا وجوه من حوله، سيطر الخوف عليهم لأنهم يعلمون سياسة هذا المحقق فهو يشك بأقرب المقربين له. 

 

لم يمضِ من الوقت إلا القليل حتى قطع صوتُ أحدهم الصمت السائد: سيدي لا يوجد أثر لأي جثة، القبر فارغ وعمق ما حُفر لا يتسع لجثة. 

هرول المحقق إلى القبر ليتحقق بنفسه من النتيجة. 

جريمةٌ من وهم 

انتشرت قصة القبر الفارغ في المدينة كانتشار النار في الهشيم، وبدأ الناس بتداول الإشاعات التي ترافق هذا النوع من الأحداث. 

اجتمع رهط من الناس حول العم حامد ذلك العجوز الستنيني، يستمعون إلى إحدى إشاعات القبر الفارغ. 

العم حامد: في قديم الزمان وضع المعبد سبع خطايا وأمر فرسانه بقتلِ كل من يرتكب هذه الخطايا، وأنتم تعلمون أن جماعة كهذه لا تموت وتبقى موجودة وتمارس نشاطها بالخفاء وتظهر نتائج نشاطها بظروفٍ غامضة، أضاف بعد أن أخفض صوته وأحنى ظهره: ألا ترون الكم الهائل للجرائم التي سُجلت ضد مجهولٍ حول العالم، ما هذا القبر إلا لمرتكب إحدى تلك الخطايا وسيجدون ست قبورٍ مماثلة. 

سأله شابٌ كان ينصت للحكاية من أولها: عمي، وما هي الخطايا السبعة؟

العم حامد: الطمع، الشراهة، الغضب، الحسد، الكسل، الفخر، الرغبة. إياك أن تدمن إحداهن يا بُني فإنهن مهلكات النفس. 

وقبل أن يكمل العم حديثه قاطعه الشاب مجددًا: لقد قلت إنهم سيجدون ستة قبورٍ أخرى، لماذا لا يمكن لشخصٍ واحد ارتكاب جميع هذه الخطايا دفعة واحدة؟!

العم حامد: إنهم ينفذون هذا العقاب كل سبعين سنة، وخلال هذه السنين يُجرون دراسة على كل من تتسم تصرفاته بإحداهن، ومن بلغ الفجور في إدمانه يقع العقاب عليه. 

قطع صوت العم حامد سؤال أحدهم: ولكن الشرطة أوضحت في بيانٍ لها أن القبر كان فارغًا. 

العم حامد ضاحكًا: من المعروف عن المحقق جهاد سريته بالتحقيق، وما كان ذلك البيان إلا حقنة مهدئة للشعب ليتسنى له متابعة التحقيق، أم أنك تريده أن يعرض على الملأ الجثة الممثَّل بها!! هم لا يكتفون بالقتل، إنما ينزعون بعض أعضاء الضحية قبل قتله. 

بهذه الكلمات أنهى العجوز حكايته وانفض الجميع من حوله لا يؤلون على شيء. 

 

في مركز الشرطة التحريات تسير على قدم وساق وفق خطة وضعها المحقق جهاد ليتمكن من رد اعتباره، فقد اعتبر أن هذا الحادث تحدٍ شخصي له، وبينما كان المحقق غارقًا في تفكيره قطع صوت الهاتف سلسلة أفكاره. 

المحقق جهاد: معك المحقق جهاد ماذا تريد؟!

صوت من الهاتف: سيدي، لقد وصلنا بلاغٌ عن قبر مشابه للقبر الأول وهو في طرف الغابة المطلة على البحر. 

المحقق جهاد: أنا قادم بالحال. 

أغلق الهاتف ووجه تعلميات صارمة للمحققين بالمركز: لقد وردني بلاغ عن وجود قبر آخر، عليكم إيجاد رأس خيط يدلنا على ماهية الفعل، لا يوجد لدينا وقت فقد أصبحت سُمعنتا على المحك، لقد سبق الناس الشرطة إلى مكان الحادث وبدأت التكهنات تبصر النور.

أفسحوا الطريق لقد وصل المحقق. صاح أحدهم. 

انفض الناس من حول القبر بعد الأوامر التي وجهها لهم، وبدأ بالدوارن حول القبر لعله يجد أي دليل. لفت انتباه المحقق عبارة كُتبت على الطرف الداخلي لشاهد القبر” كم كنت جميلة! ” تفحص القبر جيدًا قبل إصدراه أمر الحفر متمنيًا أن يجد جثة هذه المرة، ولكن النتيجة مطابقة لنتيجة القبر الأول. لا توجد جثة، كما أن الحفر سطحي.

 

في مكتبة أقصى المدينة جلس رائد وأصدقاؤه يحاولون تفكيك هذا اللغز. 

رائد: من غير المنطقي أن يضع القاتل ضحيته في قبر على مرأى من الناس، هذا القاتل يتبع سياسة التضليل. 

وقبل أن يكمل سأله شادي: إلى ماذا ترمي، فهذه المرة كان نبش القبر على مرأى الناس ولم يجدوا جثة، أظنها إحدى ألاعيب الحكومة لتصرف نظر الناس عن السياسين الذين فُضحوا مؤخرًا. 

رائد: لا أظن ذلك، فليس من مصلحة الحكومة تشكيك الناس بقدرة أجهزتها الاستخبارية لأنها لن تستطع القتال على جبهتين، ولكن من وجهة نظري توجد جثث، ولكن بمكان آخر. لقد جعل القاتل كل أجهزة الدولة من شرطة ومخابرات يتحرون حول موضوع القبور الفارغة بينما ينفذ جرائمه بكل بساطة فلن يكون لدى الاستخبارت الوقت الكافي للتحري عن المفقودين لا سيما أننا في قرية سياحية سكانها قليلين بينما الزائرون كثيرون، هو لن يقتل السكان المحليين، أعتقد أنه يصطاد السائحين الأغنياء. 

شادي: لطالما أُعجبت بذكائك، قسمًا مكانك الحقيقي بدل الأبْله جهاد. 

رائد بعد أن عدل جلسته: الدنيا غير عادلة يا صديقي. 

 

لقد استدعى المحقق كل أرباب السوابق إلى المركز ليحقق معهم، وأصدر تعليماته بنشر المخبرين في كل زقاق وبين كل جماعة، كما أنه عيَّن عنصرين أكفاء لمراقبة القبور بالخفاء لعله يجد ما يوصله إلى الحقيقة 

مرَّ اليوم ببطء شديد على المحقق جهاد حتى انهالت الاتصالات عليه من القادة مطالبين منه أن يسرع في حل هذا اللغز وأن يخبرهم بتطور الأحداث بشكلٍ دوري، وختم قائده اتصاله قائلًا إن لم تكن كفأ لهذه القضية أرسل إليك خيرة المحققين من العاصمة. 

ضرب المحقق سماعة الهاتف بالأرض صارخًا: لا ينقصني إلا أنت! 

 

تتوالى الأيام دون جديد سوى أن كل يوم يكتشفون قبرًا جديدًا والناس يتكلمون ويبدعون بتأليف الإشاعات، والمحقق عاجز عن فهم ما يحدث، وتتوالى الاتصالات مهددة إياه بالفصل تارة وبالسجن تارة أخرى. 

في اليوم السادس لاكتشاف القبر الأول لاحظ أحد المخبرين أن شخصًا يحمل مِعْوَله يركض باتجاه الغابة وهو مضطرب في مشيته فأخبر المحقق بذلك. 

 

في أعماق الغابة وبينما الظلام يلف المكان كان خالد يسير بخطىً مضطربة وهو يحدث نفسه: لقد جعلتِني قاتلًا، ها أنا ذا أقوم بقتل ذاتي للمرة السادسة، ست ضحايا ومجرم واحد هو أنا. آهٍ منكِ يا ذاتي المتشائمة! لماذا جعلتني أقتل ذاتي الحالمة، ما ذنبها؟ فقط لأنها تصنع لي من الحنظل عسلًا!! 

الذات المتشائمة: لا تقل لي إنك نادم على قتلها، إنها تعذبك بفعلها، فلا توجد حياة سعيدة إلا في الحياة الآخرة، والآن اخرس وتابع سيرك قبل أن يلحظك أحد. 

خالد: وما ذنب بقية ذواتي، لماذا قتلتهم؟!

الذات المتشائمة: أنا لم أقتل أحدًا، إنما وُجدت لأجعلك ترى البياض سودًا وأحرضك على التشاؤم، ولا تنسَ أنك من عززت في نفسك هذه الخصلة وأنت تقتل نفسك بنفسك وتطلق على كل نفسٍ تقتلها اسم ذات كنت تحلم أن تكون بصفاتها. 

خالد: تشاؤمك هذا وإلقاؤك اللوم عليَّ في كل مرة سيجعلني أنتحر آخر المطاف. 

الذات المتشائمة: انتحر وأرحني من فلسفتك، فلم أعد أطيق وجودي في عقلك.

 

وبينما هو يحفر متابعًا حديثه مع نفسه لمح من بعيد أضواء سيارات الشرطة تدخل الغابة. توقف لبرهة وقال: ويح هؤلاء الأغبياء! أيحاسب المرء على قتله لنفسه، حبًا بالله كفى، دعوني وشأني لقد حطمتم كل آمالي. أين كنتم حين ُقُتل والدي، ماذا فعلتم؟ آسفون لقد تبين معنا خلال التحقيق أنه لا يوجد جريمة، والدك قتل نفسه. 

أيعقل أن يقتل شخصًا نفسه بعلم والدي نفسه؟ ولنفرض جدلًا أنه فعلها، هل من المعقول أن تحرق والدتي المنزل وتنهي حياتها؟ أنتم أغيباء وفشلة، دعوني أقتل نفسي للمرة السادسة لعلني أنسى شيئًا من الماضي، إني أتعذب كل ليلة ولا أستطيع النوم وأطياف من أحبهم تلاحقني، لقد قُتل جميع من أحببتهم ولم يكن هناك قاسمًا مشتركًا بينهم سوى أنني أحببتهم، فأبي طلق أمي قبل ولادتي، وهما لا يعرفان بحبي لنسرين، كلهم لا يعلمون كم كنت متعلقًا بأستاذي فؤاد، والآن كلهم أموات وأطيافهم تلاحقني كل ليلة، دعوني وشأني.

 صوت صرخة خرجت من المحقق جهاد قطعت حديث خالد مع نفسه: توقف، ارفع يديك إلى أعلى واستدر ببطء. 

سيق خالد إلى المركز للتحقيق ومن خلال التحقيق تبين أنه مصاب بفصام بالشخصية (الشيزوفرينيا) وتم تحويله إلى المصح النفسي للعلاج.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى