أدبي

الأيتام

وقت النشر : 2022/07/21 03:27:09 PM

الأيتام

بقلم: شيماء محمد عبد الله

كانت الساعة تشير إلى الثانية عشر ليلا، حين كنت أحاول النوم، لكن قرع الأواني وأصوات الضجة العالية الآتية من الشقة المقابلة، أغضبتني ومنعتني من النوم، حينها غادرت السرير ورأسي يكاد أن ينفجر من شدة الصداع، تتبعت صوت قرع الأواني حتى وقفت أمام الشقة، دققت الباب بحدة وغضب، فتح الباب بغتة ليطالعني وجه امرأة عجوز ملتحفة بالسواد. ثيابها تقليدية تشبة تلك التي ترتديها العجائز في القرى، حيث الجلباب الأسود ضيق عند الخصر متسع من الأكمام والجوانب، تلف رأسها بشال أسود وتضمه جهة وجهها فلا يظهر سوى عينان وأنف، كأن فمها عورة!

كانت عيناها مثبتة نحوي، تسرح في ملامحي، طولي وعرضي تائهة كأنها تبحث عن شيء أو… لا أعرف تحديدا، لكن نظراتها غريبة جدا، كأنها حنونة، زائغة، راجفة، دامعة، قوية، ومرتعشة، أتاني صوتها مهزوزا

-من أنت؟

_أنا المستأجر الجديد للشقة المقابلة يا حاجة.

_هل تريد أن تشرب الشاي معي يابني؟

(الشاي!، حدثتني نفسي بأنها حتما تعاني خطبا ما، هل تعزم غريبا وقف على بابها للمرة الأولى على شاي بعد منتصف الليل؟!)

-شكرا، لكن لو تكرمت أريد أن أنام، لكن الأصوات عندك مرتفعة.

شهقت وضمت الشال أكثر نحو وجهها تغطي ما تبقى منه.

_اعذرني يا غالي، الآن انتهي، لابد أنك جائع، أتنام دوما جائعا؟!

-ما بها حقا تلك المرأة، أتعاني من الخرف؟!.

وقبل أن أسترسل في الكلام جذبتني من يدي للداخل قائلة: الجو بارد، ستصاب بالإنفلونزا، تعال أعرفك لا تتحمل المرض يابني!

-تعرفني؟!

-لحظة يا حاجة أنا..

_«أمي»، _تنطقها بحزم_

قل يا أمي كأنها تتوسلني!، أنت لست غريبا، أما زلت غاضبا؟!

-أنا!

-حتما غاضب، وإلا ما كنت غبت كل هذا الوقت، لكنني كنت أعرف، انتظرتك قلت حتما سيأتي، هل اشتقت لغرفتك، لطعام أمك، تتلفت بطريقة مريبة ثم تسألني بغضب وعتاب، أين إخوتك؟! أتيت وحدك، وحدك ياقاسم؟! وعدتني أن يعودوا معك؟!

-«توقفي أنا لا أعرفك».

صرخت بها،لترتد المرأة للخلف، وكأنها لم تتحمل صراخي، رمت بنفسها فوق الكنبة البسيطة المهترئة، رأيت جسدها يرتجف ثم شهقة باكية وعالية.

اقتربت وأنا ألعن غبائي الذي ساقني إلى تلك الورطة، أنّبت نفسي قائلا: أنا حتما غبي، هو أسبوع وسأرحل، كنت تحملت كما أفعل كل يوم منذ أتيت، الآن عرفت، تلك المرأة تعاني خطبا ما.

اقتربت منها وربّتت على كتفها قائلا:

-آسف يا حاجة، أنا لم أخذ كفايتي من النوم، لم أقصد أبدا أن أصرخ عليك.

رفعت نحوي عيناها الندية بالدموع، لكن نظرتها ضائعة في ملامحي، كأنها تتشرب كل خلية وعرق في وجهي.

-آسفة، ظننتك هو! حلمت به، جاء، كان جائعا في الحلم مشتاقا لطعامي، لضمتي!

ثم أجهشت بالبكاء وهي تهتز كلها يمينا ويسارا، هامسة بـ: حتما سيأتي، اليوم أنت وغدا هو سأنتظر، لطالما فعلت!

كانت تبدو منفصلة تماما عن الواقع، خشيت أن تؤذني، أو أن تؤذي نفسها ويتهمني أحد فقررت أن أتغاضى وأنجو بنفسي فاتجهت نحو باب الشقة بنية المغادرة، لكن صوتها استوقفني حين سمعتها تقول:

– في ليلة كتلك، باردة، موحشة هربت بهم انتزعتهم من أنياب الجهل والثأر، كانوا ثلاثة ورابعهم أنا، حملتهم في قفة من الخوص وبجوارهم مصدر رزقي الوحيد الذي عرفته، «بلاص» المش بالجبنة القديمة، لففتهم بعباءة أبيهم المقتول غدرا، في ظلام الليل تسللت كفأرة تحارب القطط الضالة الظالمة، اتخذت الطريق الزراعي القديم المهجور، غصت في الطين اللزج، سقطت مرة واثنتين وخمسة وما أسقطت القفة! وكيف أفعل وأنا أتشبث بها بقوة، أم لا تملك سوى ثلاثة أيتام جدد!

كنت صغيرة أنذاك، بنت عشرين عاما، أرملة وفقيرة وجاهلة و.. تعول ثلاثة أفواه أيتام.. صمتت كأنها لا زالت تسقط في الطين وتتشبث بالقفة! نظرتها كانت بعيدة جدا وجامدة، اقتربت أنا لأجلس بالقرب من الكنبة على مسافة من العجوز التي أكملت دون النظر نحوي، كأنها لا تراني أو نسيت وجودي حتما!

-في ذلك اليوم ركبت القطار، لا لم أدفع التذكرة، ومن أين أملك أو أعرف سعرها؟!

لم يسبق لي وأن ركبت قطارا، أنا البنت التي تعلمت أن تزرع وتقلع، وتخبز وتطهو، ثم خرجت من منزل أبي لا أعرف سوى الأرض والبهائم والبيت! تزوجت وأتقنت صنع المش بالجبن، وغسل الثياب وخاصة قفطان زوجي، ثم أنجبت ثلاثة في بطن واحدة، فرح أباهم وسجد قائلا: (الحمدلله الله رزقني بعزوة، الوحدة مرة يا “بركة”).

-سمي ياحج، وسمى، «ناجي، وبكر، وقاسم» ثم ضحك قائلا: (ناجي الله ينجيه، بكر الله يعطيه، قاسم الله يقويه).

ثلاثة شهور ومات هو في ثأر لا يخصه سوى أنه من عائلة القاتل، الفرع الأفقر والأضعف، وبينما الدم ينفر من فمه وصدره قال همسا بخوف:

-(اهربي يا بركة بعدك صغيرة، اهربي بالعيال، النجع غدار!).

وهربت.. جف اللبن في صدري فأطعمتهم المش فبكى ثلاثتهم وبكيت..، بكيت الغربة والليل والخوف ..

بنت عشرين هربت من النجع للمرة الأولى، بلا زاد ولا سند، لا شيء سوى قفتها والمش وثلاثة أيتام!

جلست في المحطة أبكي وأضم قفتي، حتى جاء ابن حلال وأعطاني ورقة بخمسة جنيهات ودلني على قريب يؤجر غرف للسكن بحمام ومطبخ مشترك، ثم بدأت الرحلة

رحلة بركة بائعة المش! عشرون عام ربيتهم رجال بحق تخشى العين من طلتهم، تطل الشمس مع هيبتهم، بائعة المش هي وقفتها بعد عشرون عام أسندت ظهرها وكفت عن الشقاء، بعدما أكلت الأرصفة صحتها، ودك البرد صلابة عظامها، لكن« قاسم» ذات يوم وهو يذاكر قال:

(يايمه بركة راح أكون دكتور عظام يعالجك ويخليك صبية تتشوق العين لنظرتها)، فيضحك «ناجي» ويقول: (ونزوجها للحاج مهدي الجزار)، فيدخل بكر بشحمه ورائحة الزيت النفاذة تفوح فيسأل ويجيبه ناجي بنكتته فيقول: (يعني راح ناكل لحمة كل يوم من عند زوجك يايمه؟! والله ما أطعم من مشك يالي بدود)، يضحك ثلاثتهم ويقول ناجي (والله أنك وجه فقر يا خوي)، رجالي الذين كبروا وصاروا فخري وعزوتي

ناجي الذي يعمل مدرس، بكر المهندس المكانيكي، وأخيرا قاسم طالب الطب؛ ثم

أراها من مكاني تضع يديها على أذنيها وهي تصرخ وتولول قائلة:

_ الضحكات كيف صارت أشباح؟

كيف بتخرجلها أنياب؟!

تصرخ وتبكي، ثم تصمت صمت الأموات!!

أما أنا فقد انهمرت دموعي بلا صوت، لكن السؤال وماذا حدث بعد، كيف ومن قتل الضحك، وأين هم (ناجي، وبكر، وقاسم)؟!

لكنني لم أجرؤ على السؤال فآثرت الصمت.

هبت واقفة بفزع واتجهت نحو باب حجرة بعينها، دقت عليه برقة، قالت: في يوم جاء ساعي البريد بجواب، فحواها أن لنا أرض وحق ورثة من الجد، صرخت لا لا تذهبوا للنجع، لكن ناجي وبكر ذهبا… ذهبا بلا عودة، كان فخ ولا زال شيطان الثأر يوسوس للجهلة قساة القلوب.

قلت:

_بعد عشرين عاما يا حجة بركة؟!

-بعد عشرين عاما يا ولدي.

تمر بشالها تلتقط بقايا الدموت، لكن الأوجاع باقية لا تزول!

-وماذا حدث؟

-جن جنون قاسم، تآكل قلبه على أخويه فسافر بحثا عنهما دون علمي.

-و…. أصمت أخشى السؤال، لكن الجواب قتلني

-قالت: عادوا ليلا أمام بيتي في قفة كان ثلاثتهم برأس فقط!

رأس ولا شيء آخر، ثم وكأنها ليست هي، فزعت وصرخت واتجهت نحو الباب تدقه بعنف، تدقه بقهر أمومتها المذبوحة تنادي:

_قاسم ياولدي الوكل، الوكل هيبرد،.. تلتفت نحوي، تبرق عيناها بنظرة مخيفة أرتعد لها فتقول

_أخوك، أخوك يا ناجي اتأخر، ثم تدق الباب بعنف تصرخ، ترج الباب بكلتا يديها يكاد ينخلع من قوتها وهي تنادي: قاسم، قاااااسم، والله قصمت ظهر أمك، قااسم ذبحتني ذبح يا حبيب أمك، تعال، تعال يا ولدي، يخفت صوتها تتشمم الباب بلهفة تهمس بخفوت مبحوح:

_تعال أضمك وأشمك، شايك محلّى بالسكر، برد! برد يا ولدي وأنا عم بستنى!

ثم تلتفت نحوى وتصرخ:

_بكر وين أخوك؟!، ينخفض صوتها وينه ناجي، تهرول نحو الغرفة الأخرى تدق الأبواب كلها

الغرف محكمة الغلق لكنها تدق وتدق، تدمى كفيها المتكورة، تنزف دما ثم تتكوم وتقول:

_النار بقلبي ما بردت، كيف بتبرد كيف؟!

البيت بارد، والمش صار مر، مر بمرارة الحرقة يا ولدي.

ثم رفعت عيناها نحوي تتلمس بأنامل مرتعشة خطوط وجهي، عيناها غارقة في خطي دموع تنفجر من حدقتها بلا توقف تضمني بكفين داميتين، نازفتين، خشنتين مجعدتين ثم تهمس قائلة:

_أحطلك واكل يا ناجي، لا هحطلك شاي ياقاسم، تتلفت حولها ثم تهمس وينه أخوكم بكر؟!

ستارة من الدموع نزلت علي فمنعتني الرؤيا، أبحث عن صوتي وفصاحتي، لكن الكلمات محشورة عند بلعومي مغروسة كخناجر في حلقي، ماذا أقول لعجوز شقيت كل هذا الشقاء وحين ظنت أنها ارتاحت، وأرادت أن تستند على أيتامها، ودعها ثلاثتهم في غمضة عين؟!

كان عدد لا بأس به من الجيران قد فزعوا من الأصوات فتجمعوا حول الشقة، ثم افسحوا لشاب من بينهم فاقترب وحقنها بهدوء لتنام بين ذراعي وهي تهمس قائلة:

_ناجي الله ينجيه، بكر الله يعطي، قاسم الله يقويه، غابوا كتير على أمهم بس الله يردهم سالمين، يااالله ردهم سالمين.

أما أنا فقلت آمين، بعفوية ويقين

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى