أدبي

براءة

قصة قصيرة

وقت النشر : 2021/12/11 12:33:30 PM

براءة
قصة قصيرة
بقلم: شيماء محمد عبد الله

في موقف الحافلات حيث الشمس الحارقة تلفح حرارتها الوجوه والأبدان فيسيل العرق وتتوهج الملامح الكادحة، كنت أنتظر دوري حيث مئات الأشخاص يكدسون همومهم في حقائب ثقال تحملها قلوبهم وتخفي بداخلها الأسرار، أما الأيادي فإنها فارغة إلا من حقائب صغيرة تحملها النساء أو يدسها الرجال في الجيوب. أعلم أنهم يخبؤون الوجع عن الغرباء والقهر عن الأعداء فكلٌ من هؤلاء يمضي كل يوم في كفاح من أجل لقمة العيش ومتطلبات الحياة.
بالمناسبة، أنا رحمة، انتهيت منذ بضعة أيام من اختبارات الكلية، وكنا قد اتفقنا أنا والرفيقات أن نحتفل بطريقتنا الخاصة، فحجزنا لرحلة إلى الأسكندرية على شاطئ ليلي مشهور كما قالت صديقتي هبة، وها أنا أنتظر، وكالعادة أراقب الوجوه وأحاول تحليلها فهذه إحدى خصالي – أو عيوبي – كما تصر هبة على قول ذلك حين تمزح معي قائلة:
= رحمة، كُفِّي عن التدخل في أدمغة البشر، كان يجب أن تكوني طبيبة نفسية. تقولها ضاحكة
فأرد أنا مدافعة عن تهمتي:
= أنا أشعر بملامحهم المتعبة فأحلل السبب، هل مذنبة أنا؟ ثم نضحك سويا.

الآن أنظر في ساعتي، يمر الوقت بطيئًا، الزحام خانق والشمس تشتد حرارتها. أدس يدي في الحقيبة باحثة عن قارورة الماء المثلجة..تبا كالعادة نسيتها على الطاولة وأنا ألبس حذائي، التفت بحثا عن أحد الأكشاك أو المحلات لأشتري منها فوقعت عيني على جسد ضئيل محني يحمل على ظهره شوالًا من بلاستيك المفترض أن لونه أبيض، لكنه ممتزج بالبقع المتسخة، وكومة الشعر المشعث تخفي الملامح، أحببت أن أرسمها، لا أن أحللها فتلك لقطة لا تفوت. أخرجت هاتفي لألتقط الصورة.
فجأة، رفعت في وجهي عينين لامعتين، ببشرة سمراء متعبة، وخدود متسخة ببقع سوداء، اقتربت منها أكثر، يا الله! هي فتاة صغيرة و… حافية!
في تلك الحرارة كيف تتحمل قدماها سخونة التراب الذي تنغرس فيه؟!
بنطالها الممزق من عند الركبتين، وبلوزة صوفية سميكة، لا تناسب أبدا حرارة الجو، ويدان صغيرتان تحيط بهما الخدوش، وأظافر طويلة تتجمع تحتها طينة سوداء، الفتاة منظرها يقطع القلب حقا.
= أبلة، هل سقط منك شيء؟
= لا، أنا أريد أن ألتقط لك صورة.
انكمشت الفتاة وبدأت الدموع تتجمع في مقلتيها
= أبلة، لم أسرق شيئا، أنا أجمع العلب الفارغة انظري، قالتها وهي تفتح شوالها المكدس بالعلب المعدنية الفارغة وقطع الخبز الجاف الممتزج بالعفن!
= لا تخافي، أنا فقط كنت أريد صورة لأرسمك فيما بعد.
حينها ابتسمت الفتاة وبدت سعيدة وهي تحاول أن ترتب خصلات شعرها المشعث، وتنفض التراب عن بنطالها المهترئ، ثم اعتدلت في وقفتها وقالت: أنا جاهزة يا أبلة.
التقطت الصورة، لكن منظر الصغيرة نغزني بألم.
= ما اسمك صغيرتي؟
= أنا براءة يا أبلة
كانت ابتسامتها حلوة، ولكن هيئتها موجعة للقلب.
= أين بيتك يا براءة؟
= هناك يا أبلة، قالتها وهي تشير للتجويف تحت الكوبري الذي تسير فوقه الحافلات.
كيف يمكن لطفلة مثلها أن تأمن في هذا المكان؟! إن لم يكن من الكلاب المسعورة فهناك الكلاب التي تنهش براءتها.
= أين عائلتك يا براءة؟
= عائلة! آه..تقصدين أصحابي، هناك أنا وزهرة وأيمن و…
= مهلا كلكم معا تنامون في الشارع؟
= نعم يا أبلة
= و…، كنت سأكمل، لكنها ابتسمت وحملت الشوال الذي طوله أضعاف حجمها ولوَّحت لي قائلة:
= شكرا، لأنك تحدثت معي.
= لحظة، ألا يتحدث معك أحد؟
= عادة يشعرون بالقرف منا، أعني أنا والأصدقاء، أو يظنون بنا سوءًا بأننا لصوص، أو دون المستوى، ثم قفزت باتجاه الرصيف الآخر.
مشت، لكن بقيت كلماتها العفوية ترن بداخلى فتشق قلبي بألم، وأتساءل: هل تستحق براءة كل هذا الشقاء، وهل هي آمنة في العراء؟ ثم فكرت قائلة: كيف السبيل للنجاة من مصير أسود لكل تلك البراءة قبل أن يحدث ما لا تحمد عقباه

ذات صلة
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى