أدبي

نافذة غريب

وقت النشر : 2021/12/11 08:23:49 AM

نافذة غريب

قصة قصيرة

بقلم: الزهراء محمد سعيد

كانت فيروز تشدو كلمات أغنيتها الرقيقة

 “كان الزمان، وكان فيه دكانة بالحي، وبْنَيات وصبيان تيجي تلعب على المي، يبقى حنا السكران، قاعد خلف الدكان، عم بيصور بنت الجيران”

ذكرتني تلك الأغنية بجاري العجوز، كان يقضي وقته وحيدا خلف نافذته، يخرج رأسه ويغني بصوت صخب أشبه بالنحيب: غريب الدار عليا جار” كان لا يمل من الغناء، يعكف على غناء تلك الأغنية لساعات طويلة.

كنا انتقلنا حديثا إلى ذلك الحي تاركين منزلنا القديم، وكان العجوز بالمنزل المقابل لمنزلنا. لا أعرف لماذا كنت لا أخشاه على الرغم من فزع أبناء الجيران منه، كانوا يفزعون ويركضون لمنازلهم عندما يخرج رأسه ويبدأ في الغناء والصراخ، لكني كنت أقف ثابتة لا أركض بل كنت أنظر إليه، لعل ما يبقيني هي تلك النظرة الحزينة في عينيه، أو لأني اعتدت على رؤيته باستمرار فنافذة غرفتي تطل على نافذته.

لا أعرف سر شعوري تجاهه، لكم تمنيت أن أعرف قصته. سألت أمي في إحدى المرات عن سر حزنه وسبب بقائه وحيدا طوال الوقت وغنائه الحزين ورأسه المترنح كأنه قد أثقله السُكر؟! كانت ترد بلا أعلم.

قررت سؤال أحد أبناء الجيران فقال: لقد جاء للسكن حديثا لا نعرف قصته، وتضررنا كثيرا من غنائه الصاخب. استسلمت وقررت الاكتفاء بمراقبته من نافذتي فكان هو بمثابة حنا السكران بطل إحدى أغنياتي المفضلة لفيروز.

مرت الأيام والشهور وأنا أتابعه في صمت، شاهدته في إحدى المرات حاملا صورة فوتوغرافية ينظر إليها ثم أجهش في البكاء كطفل صغير، كنت أود أن أركض إليه وأحمل له الزهور وأخبره أني معه وأنه ليس وحيدا، تمنيت لو أجلس معه وأمسح دمعه، شعرت أنه والدي.

كنت أتمنى أن يخبرني سره، أشعر أن آلامه كبيرة بعدد شعره الذي غزاه الشيب وقسمات وجهه بتجاعيد العجز والألم. لاحظ مراقبتي له فدلف للداخل تاركا لي حيرتي في أمره. من يجرؤ على جرح ذلك الرجل بعينيه اللتين تعكسان دفئا غريبا؟!

 ما زال يغني، وما زلت أراقب في صمت، أدمنت جاري السكران وفكرت كثيرا كيف أسعده ولو بشيء بسيط فقررت تزيين نافذتي بالورود، وأحطتها بنباتات خضراء لعل منظرها البديع يسعده ويلقي ببهجته على قلبه فيحمله من وحدته وعالمه الحزين لعالم أكثر بهجة وحياة.

حاولت زيارته، لكن أمي رفضت؛ هي تكره تكوين علاقات مع الغرباء، أو لعلها عادة الحياة بالمدن لا تعرف فيها حتى اسم جارك!

استسلمت، وبقيت النافذة هي مكاننا المشترك، لم أكن أملّ سماعه وهو يغني ويتمايل كسكران لا يستطيع حفظ توازنه، بل كنت أستمتع بوجوده، كانت المسافة قريبة لدرجه مكنتني من رؤية عينيه الممتلئتين بالدموع.

غاب عني رفيق النافذة لمدة يومين، كدت أجن وشعرت بعجزي، لكنني لم أيأس، بحثت عن أغنيته، وعندما بدأت نغماتها وبدأ المطرب بالغناء خرج إلى نافذته وأخذ يلتفت يمنة ويسرة وفي كل الاتجاهات يبحث عن مصدر الصوت، وعندما رآني ابتسم نصف ابتسامة حزينة فأومأت له برأسي. وقف لبرهة مستندا للحائط، كان يبدو عليه المرض ثم سار ببطء وعاد إلى الدخل حتى اختفى.

كانت تلك هي المرة الأخيرة التي أراه فيها؛ ففي اليوم التالي وأثناء عودتي من الخارج وجدت جمعا من الناس أمام منزله، دفعني الفضول لسؤال أحد المتواجدين فقال في حزن، مات العجوز.

شعرت بدوار كاد يسقطني وصرخت: كيف؟

قال: وجده ابنه ميتا على سجادة الصلاة، مسكين.. مات وحيدا.

تساءلت: هل له ابن؟

وهمست: سجادة الصلاة! يا لها من خاتمة على الرغم من كونه سِكيرا!!!

فرد في استنكار: لم يكن أبدا سِكيرا، إنه رجل فاضل.

قلت في لهفة :هل تعرفه، هل تعرف قصته؟

قال وهو يبكي بحرقة: بالطبع، اعلمي أنه مربٍ فاضل بالتربية والتعليم، كان معلمي، وكان حنونا يساعدنا ويحنو علينا بل ويشتري لنا الكتب والكراريس ويحضر لنا زهورا كل صباح، كانت له زوجة حنونة مثله أحبها بجنون ورزق منها بولدين، لكنها أصيبت بمرض عضال فكان نعم السند والمعين لها، ماتت وتركته وولديه فقرر ألا يتزوج وكرس حياته لهما، لكنهما كانا متمردَين لم يستطيعا تقدير ذلك الأب المثالي، عندما كبرا واشتد عودهما ازداد تمردهما، ولما حاول تقويمهما تطاولا عليه، وانتهى جحودهما بالحجْر عليه.

شهقت من الصدمة، أي جحود هذا؟!

أكمل قائلا: كانت تلك ضربة قاصمة لمعلمي، جعلوه يترك منزله وجيرانه، كل محاولاتنا في إثنائهما عن ذلك فشلت، تمكن منهما الشيطان، حتى الزيارات منعوها، منعونا بالتهديد تارة وبالترهيب تارة أخرى، كنا نحاول مراسلته، لكن وحدته أفقدته عقله.

قلت وأنا أهمس: لم يكن سكرانا!!!

قال: أبدا، اعلمي أن الحزن يُثقل القلب ويُذهب العقل، لكنه الآن حر طليق مع آلاف الدعوات تطوقه في رحلته الأخيرة.

قلت: كان وحيدا حزينا، كان هو غريب تلك الأغنية، مزّقه الخذلان وفراق الحبيب.

تركت الجمع وذهبت لمنزلي كأني تحت تأثير مخدر قوي حتى إني لم أنتبه لنداء أمي.

دلفت لغرفتي وركضت لنافذتي لأجد ولأول مرة منذ سنوات نافذته مغلقة، أجهشت في البكاء وتذكرت لقاءنا الأخير ونصف ابتسامته الحزينة، كانت هي المرة الأولي التي ينتبه فيها لوجودي ولم أكن أعلم أنها الأخيرة.

أقسمت أن أزور قبره طوال عمري، ذلك الغريب الذي جار عليه أقرب الأقربين – أبناؤه – عليهما من الله ما يستحقا.

أنا الآن بنافذتي بعد مرور سنوات عديدة أستمع لفيروز تنشد حنا السكران، لكنك لم تكن سكرانا أبدا.

إليك دعواتي الدائمة أيها الغريب.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى