أدبي

دموع المطر

وقت النشر : 2022/01/01 11:16:00 AM

دموع المطر

قصة قصيرة

بقلم: الزهراء محمد سعيد

 

ذات صلة

عاد الشتاء، كم أكرهه! فهو يحمل لي ذكريات مؤلمة، كأنه لا يكفيه برودته فيثقل قلوبنا بآلام لا يمكن نسيانها، أتذكر تلك الليلة جيدا، ليلة قارصة البرودة من ليالي ديسمبر، لم يشفع لنا مطرها الغزير وبردها القارص في إثناء أبي عن فِعلته، أتذكر وقع أقدامنا على الطرقات ورائحة المطر المختلطة بالأتربة وركلات أبي تلاحقنا بلا رحمة لتفعل بجسدي أنا وأختي الأفاعيل.

نعم، إنه أبي، لكنه ليس كالآباء.

كان أبي تاجرا ميسور الحال -كنا تقريبا أثرياء- أسرة سعيدة، أب وأم وابنتين، كان منزلنا كبيرا بحديقة خضراء، ووالدتنا بشوشة طيبة القلب وجهها كإشراقة الشمس الحنونة.

كنا نتحادث ونتضاحك ونتقافز حول أبي كأطفال صغار، لكنه الدهر يتقلب فلا فرح يدوم ولا حزن يدوم. تعثر أبي ماليا وغدره صديقه، تتابعت خسائره وزاد ألمه وتخلى صديقه عنه، حاولنا التخفيف عنه، لكن هيهات، كيف لنا بضعفنا هذا أن نخرج به من أزمته؟! ضاعت ممتلكاتنا الواحدة تلو الأخرى، انهزم أبي، وتبدلت أحواله، انعزل بغرفته وحيدا ثم تطور الأمر فاتجه للمخدرات، كانت ملاذه للهرب مما ألمَّ به، لكنه هوى وهوى إلى غيابة جب عميق غاص في ظلامه وابتعد عن النور، لم نفلح جميعا في إقناعه بالإقلاع، باع كل شيء حتى ملابسنا، أصبح عصبيا؛ يهشم وجه أمي لأتفه الأسباب، يصرخ ويسب ولا تهدأ ثورته إلا بعد تناول جرعته، فتخور قواه ويغوص في نوم عميق. لعنة الله على المخدرات، كيف تحول الإنسان لشبح أو بقايا إنسان!

زادت الأمور سوءا ولم يجد أبي بُدًّا من بيع منزلنا، أصبحنا مشردين، نتنقل بين المنازل، حاولنا العمل بجانب دراستنا بالجامعة، أنا بكلية الطب وأختي بالهندسة، حتى والدتي حاولت جاهدة العمل، لكن هل تكفي نقودنا القليلة وحشه، بالطبع لا؟

حتى تلك الليلة المصيرية، خرج أبي من غرفته مترنحا وقد تقلصت ملامحه ألما وقال: هيا معي، اعترضت أمي طريقه قائلة: لا لن أتركهما، نظر إليها صارخا: ابتعدي، هيا بنا، لكن أمي اقتربت منا وأحاطت جسدينا بيديها وهي تصرخ: لا، هل فقدت عقلك؟! زاد جنون أبي ولكم أمي لكمة قوية طرحتها أرضا فاصطدم رأسها بالأرض لتفقد الوعي وأنا وأختي نصرخ نحاول الوصول لأمي، لكنه جذبنا بقوة لدرجة شعرت باختراق أظافره ممزقة لحمي.

استسلمنا تحت وطأة الألم، نتحرك أمامه مسلوبي الإرادة تلاحقنا ركلاته القوية التي نالت من أجسادنا النحيلة. كان الشارع خاليا، مظلما وباردا تغمره مياه الأمطار، كان دليلنا ضوء ضعيف من أعمدة الإنارة، سرنا كثيرا لا أعلم المسافة، لكن أعتقد سرنا لمدة ساعتين، لم نكن نملك المال لاستخدام سيارة، كنا نرتجف كعصفورين في مهب الريح كسر جناحاهما لا يملكان من أمرهما شيئا، توقف أبي أمام إحدى الحانات، قرأت لافتتها المنيرة فإذا بها حانة لبيع الخمور والسهر. لماذا أتى بنا إلى هنا؟!

اقترب أبي من رجل مفتول العضلات وهمس له فنظر الرجل إلينا ودلف للداخل، عاد بعد برهة ويتبعه رجل آخر، اقترب منه أبي وحدثه متوسلا وهو ينظر إلينا، اقترب الرجل منا وأخذ يتفحصنا وهو ينفث دخان غليونه ثم هز رأسه وأخرج من ملابسه شيئا أعطاه لأبي – إنه المخدر – فالتهمه أبي بشراهه وتنحى بعيدا.

اقترب منا مفتول العضلات فصرخنا وابتعدنا عنه فجذبنا بعنف للداخل، تعالى صياحنا، وطلبنا نجدة أبي، لكنه كان بعالمه منتشيا، قاومنا وازداد صراخنا، عاد الرجل وقد اضطرب وأمرنا بالهدوء وقال: أحضركما أبوكما للعمل هنا ثمنا لما طلبه، قلت صارخة: ماذا؟! لن نقبل ذلك، دعنا نرحل.

ابتسم بسخرية وقال: ونقودي، هل سيعيدها والدكما المدمن؟!

قلت بغضب: لسنا قربانا لشيطانك ولن نكون وركضنا بعيدا.

نظرت لأرى الرجل وحارسه ينهالان ضربا على أبي وهو مستسلم.

ركضنا حتى وصلنا للمنزل لنجد والدتنا تقطع الشارع ذهابا وإيابا، وما إن رأتنا ركضت تجاهنا واحتضنتنا ومسحت دموعنا بيديها وهمست: هيا، حان الآن وقت الرحيل، رحلنا قبل عودته ونجونا.

خرجنا ثلاثتنا لا نملك إلا أنفسنا، بدأنا حياتنا بعيدا عن أبي، عملنا بجد وأصرت والدتي على أن نكمل دراستنا، لن أنسى دموعها ونظرة الفخر يوم تخرجي ويوم تخرج أختي كأنها كانت مكافأتها التي مسحت تجاعيد الألم عن وجهها لتعيد لنا وجهها الصبوح وابتسامتها المشرقة.

أنا أعالج المدمنين الآن، أرى في خلاصهم خلاصي حتى لا تتكرر قصتنا من جديد.

مر الشتاء تلو الآخر حتى جاءت تلك الليلة عندما طرق بابنا أحد المشردين، كان نحيلا بملابس ممزقة بالية وقذرة، وجهه قذر غائر العينين، ترتعش يداه لا أعلم بردا أم مرضا، لحيته طويلة جدا، كان يتوسل ليحصل على بعض الطعام، رق قلبي لحاله وطلبت أمي مني إحضار الطعام له، ولما اقتربنا منه تعرفنا عليه، إنه أبي أو شبح أبي، صدمنا من حالته، تبادلنا النظرات فسقط الطعام منا أرضا، حاول جاهدا التقاطه من الأرض وتناوله، همت أختي بغلق الباب، لكن منعتها أمي ونظرت إلينا نظرة أدركنا معناها، اقتربت منه وربتت على كتفه فأخذ يتفحص وجهها ثم تراجع وانفجر باكيا وقال: لا أستطيع التصديق.

اقتربت أمي منه وجذبته للداخل، لا أعلم كيف غفرت له، لكنها غفرت وأكرمته، وعندما سألتها، كان جوابها: ألا يكفي ما عاناه، لقد عاقبته الحياة وأكرمتنا، ألا نكون ممتنين، لقد تشرد وأصابه المرض، إنه ضحية مسكين.

أثرت كلمات أمي في نفسي، بالفعل كافأتنا الحياة وأنصفنا القدر. غفرنا له جميعا، لكنه لم يغفر لنفسه أبدًا، عاش معنا صامتا، إذا نظر إلينا اغرورقت عيناه بالدموع، حاولنا تذكره بصورته الحنونة البشوشة، حاولنا جاهدين إحياء ذلك الأب الحاني، كان ينظر إلينا بامتنان، ويشكر أمي ويدعو لها حتى وفاته.

تزوجنا أنا وأختي ونجحنا بحياتنا الشخصية والعملية، لكن وبعد كل تلك السنوات لم أستطع نسيان تلك الليلة بالتحديد، واحتفظت بكرهي لديسمبر.

ها هي قطرات المطر الغزيرة تنقر زجاج نافذتي، ترسم وجوها تعيسة، لعلها غزيرة لأنها دموع قلوب باكية أدماها الخذلان في ليلة قارصة البرودة من ليالي ديسمبر.

زر الذهاب إلى الأعلى