أدبي

مراوغة

وقت النشر : 2022/01/07 04:49:44 PM

مراوغة

قصة قصيرة

بقلم: د. شيرين الكوه

في غرفة الأطفال، وثب الصغير مسرعًا يطفئ أنوار الغرفة لتغرق في ظلامٍ دامس إلا من ضوء هاتفه الجوال الخافت، ثم رجع مهرولًا نحو الفراش ليواري نفسه عن الأنظار تحت الغطاء، ويطفئ هاتفه ويخفيه تحت الوسادة، تمالك نفسه لينظم أنفاسه، لم يبقَ غير القليل من الوقت وتأتي أمه تدعوه إلى الصلاة.

لم يخب ظنه، دقائق ودلفت أمه الغرفة تهتف:

– حي على الصلاة، حي على الفلاح.

صدمت بالهدوء ممزوجا بالظلام يعم المكان، اقتربت منه وجدته مغمض العينين، حاولت إيقاظه، ربتت على كتفه، هتفت باسمه، لكنه يتقن دور المستغرق في النوم ولا يستجيب، انحنت لتطبع قبلة على جبينه قبل المغادرة لتستشعر أنفاسه اللاهثة من أثر الهرولة، أطالت القبلة ثم ملست على شعره وهي تدس يدها تحت الوسادة، وتجس الهاتف الذي كاد أن يتوهج من الحرارة، عبس وجهها، لكنها لم تنبس بكلمة، اعتدلت وذهبت في هدوء.

جلس الصغير على الفراش بعدها معاتبًا نفسه، هي بالتأكيد حزينة منه، ولكن ماذا يفعل؟! لقد مل من إصرارها على إلزامه بالصلاة، دائمًا تحاوطه بنفس النداء، خمس مرات في اليوم، نفس الحركات، ملل، لا يستطيع تكملة مباراة مع أصدقائه، ولا لعبة على الهاتف.

كيف يُفهمها أنه لا يشعر بشيء في الصلاة؟ مجرد حركات روتينية يكررها مرارًا وتكرارًا، مذ كان في السابعة حتى أصبح في الحادية عشر من العمر.

قديما كانت الهدايا من الحلوى والأشياء المحببة لقلبه تحفزه، أما الآن ليست ذا قيمة عنده،

حريته أغلى وأقيم، لقد كبر وعلى أمه فهم ذلك.

أخرج الهاتف ليتابع اللعب، مرت ساعة وبعدها أخرى، وأمه لم تأتِ لتذكره بالصلاة كالمعتاد

حينما يتأخر أو يراوغ بحيلة جديدة، نبش القلق صدره، ترك الهاتف وأنصت للصوت في خارج

الغرفة، لا أثر لحركة أمه أو لصوت القرآن المصاحب لها في الأعمال المنزلية.

همَّ الصغير يبحث عنها، لكنه لم يجدها، ليست في المطبخ أو الشرفة أو غرفة النوم، وجل قلبه، لم يعتد على غيابها، اتصل على هاتفها

أكثر من مرة دون رد، زاد هلعه، فكر مليًا، هل يتصل بأبيه في العمل، أم يخرج للبحث عنها؟

 كادت دموعه أن تنهمر، حينها فتحت أمه باب الشقة ودلفت.

هرول عليها يرغب حضنها وهو يسألها عن سبب خروجها دون إخباره؟ نزعته بهدوء من حضنها وهي تتجه إلى غرفة المعيشة قائلة:

– عليك الاعتياد على ذلك.

تجمد جسمه لحظة من هول الكلمة عليه، هرول وراءها يستوضح الأمر قائلًا:

– كيف؟!

قعدت الأم، وأخذت بيد ابنها ليجلس أمامها وهي ترقب عينيه وجدران عِند المراهقة تنهار

قبالة خوفه من فقد أمه، إنه مستعد الآن لإيضاح الحقائق، قالت بصوت حان:

– الصلاة من أعمدة الدين، وقد قال عليه الصلاة والسلام “العهد الذي بيننا وبينهم

الصلاة، فمن تركها فقد كفر” أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه. إنها جنة ونار، هل فهمت؟

اهتز الصغير من داخله، لم يكن يعلم أهمية ما فرَّط فيه، هاجت براكين أسئلة مخبأة في عقله،

تحت وطأة الاستمتاع بالوقت واللعب على الهاتف، هتف في ثورة غضب وهو يشير بيده الصغيرة:

– درسنا أن الإسلام بُني على خمس، والصلاة بعد شهادة التوحيد، ولكن ما أهمية عبادة

الصلاة عند الله ليجعلنا نرتبط خمس مرات بها، وتكون النار عاقبة تاركها؟

ابتسمت الأم وهي تضمه لصدرها وتشرح له:

إن الصلاة مهمة، ولكن لنا نحن البشر، الله لا يحتاج إلى عبادتنا والدليل وجود الملائكة تعبده سبحانه وتعالى ليل نهار دون كلل ولا ملل.

نظر الصغير لأمه باندهاش وهي تكمل: الصلاة رابطة لنا مع الله لتنظم حياتنا، تذهب لمباراة

كرة القدم، تجري وتخطف الكرة، تلعب وتقع، تحقق هدفا أو تدافع عن مرماك، وفي

المنتصف تحتاج لاستراحة أو وقت مستقطع تعيد فيه ترتيب خططك للوصول لهدفك الأساسي وهو الجنة، أليس كذلك؟

أخذ الابن يفكر في حديث أمه وكلماتها تتردد في أذنه، وإحساسه باللعب في مباراة كرة

القدم قد حضر أمامه؛ نشوة النصر، وحزن الخسارة، وإرهاق اللعب، رنت في عقله كلمة اللعب، زم شفتيه وهو يتذكر لقد لعب على

الهاتف من بعد صلاة الظهر حتى أذان العصر ولم يشعر حقًا بالوقت، مر عليه كأنه ثوان،

ويمكنه تكملة بقية اليوم دون وعي، أو اهتمام لالتهاب عينه واحمرارها رغم إحساسه بالحرقان بها، كيف حدث ذلك؟!

أطالت الأم النظر لابنها، وحينما لم تجد غير الصمت ردًا لها لوت شفتيها ثم قالت محاولة

توضيح الأمر له أكثر وهي تربت على يده:

– الصلاة جاءت لتنبهنا إن كنا نضيع الوقت فيكفي ذلك، وعليك أن تنشغل بشيء مفيد،

وإن كنت تجهد نفسك في العمل أو ما شابه، عليك ببعض الراحة بين يدى الله.

كادت أن تفقد الأمل، همت تتوضأ لصلاة المغرب عندما استوقفها سؤال ابنها:

– وكيف أبعد عن نفسي الملل في الصلاة؟

أجابت الأم وقد أشرقت السعادة في وجهها، اقتربت منه لتضع يده الصغيرة في كنف

يديها: – باستحضار العقل بتغيير السور الصغيرة للصلاة في كل مرة، ويا حبذا لو نقرأ

تفسيرها قبل الصلاة، حضور القلب بإعداد كل ما يطيب النفس وتدعي به لربك؛ توفيق في

الامتحان، فوز في مباراة، هاتف جديد، قلَّبت النظر بين عينيه وهي تكمل مداعبة له:

– أو حتى إلغاء الدرس!

ضحك الولد ثم زمجر وهو يعقب على حديث أمه بمكر:

– الآن عرفت هدفي.

لم يترك لها الفرصة لتفهم ما يقصده، هب مهرولًا ليسبقها للحمام، وقفت تنتظره عندما

خرج مبلل الرأس واليدين، قطرات الماء تتساقط منه، أسرعت بجلب منشفة تضم بها

رأسه وتحركها يمينًا ويسارًا عليها وهي تقول بفرحة:

– سوف تصلي معي وتكون إمامي.

حدق بها بثقة قائلاً: لا.

توقفت وهي تزوِّي حاجبيها وترمقه، أكمل مسترسلًا وهو يرفع حاجبا عن الآخر:

– بل أنت من ستصلين معي وتؤمِّني على دعائي بإلغاء الدرس.

رمقته أمه بنظرة يعرف معناها جيدًا، إنها بداية حرب الدغدغة، حاول الفرار بالتكور

على نفسه، ولكن يدها أسرع منه، تعرف طريقها لنقاط ضعف جسده، تجعله يستسلم

من كثرة الضحك رافعا يده ليقع في حضنها الدافئ قبل القيام للصلاة معًا.

زر الذهاب إلى الأعلى