أدبي

الرمق الأخير

وقت النشر : 2022/01/17 04:47:15 PM

“الرمق الأخير”

بقلم الشاعرة: أسماء طلعت المليجي

سلسلة شعرية تقع في ١٣ جزءً؛ تصف -بعد التمهيد- كيف تبدأ رحلة الموت في مخيّلتي، وكيف سأفكر لو عدتُ للحياة بعد الموت -لو كان لبشرٍ أن يعود- ولن يكون.

(1)

“مساؤكِ ضاحكٌ دون انطفاءِ

وشعركِ دافقٌ دون انقضاءِ”

تحلّقت التحايا فوق رأسي

وشيطان القوافي من ورائي

تعلّق في ثياب الروح حتى

ألبي رغبة الحِسّ الروائي

يريد حكايةً من أرض موتي

توسّل بالبشاشة والبكاءِ!

الرمق الأخير

وكم سلّمته قلبي ونحري

فجرّدني وغافلَ كبريائي

لتحمل أسطري فيضاً ثقيلاً

به نبضي وفكري وانتشائي

على وهني يوافيني قصيدي

فأرضعهُ مع الحب اعتنائي

وأجمعه وإخوته بصدري

تهدهدهُم قطوفٌ من غنائي

أساوي بين من يروي سروري

ومن يحكي فصولاً في عنائي

الرمق الأخير

فماذا لو دنا المجنون منّي

يحاورني على شرف اختفائي!

 (2)

فيسألُ عن وصايا لم أصغها

وغرغرةٍ ونزعٍ واهتراءِ!

ووعيي كالثلوج يذوب حتى

أغيبُ ولا أغيبُ على سواءِ..

تُرى ماذا سيختم فيض قولي

ليجرف ما ترسب في دمائي!

ومن مُتَعلّقٌ فيَّ اشتياقاً

ومن يخشى اقترابًا من وبائي!

ومن بيديه يسلبني ثيابي

لتقبرني عيون الأقرباءِ!

الرمق الأخير

سلوا بالله عينًا تلو عينٍ

بكيتِ على الفراقِ أم الرثاءِ؟

وكيف ستنقلينَ عروض نزعي

على الأشهاد من بعد انطفائي؟

وماذا لو.. سأشهد كلّ هذا

وحيدًا ذاهلًا يا أصدقائي!

 (3)

وماذا لو إلى طيفي سبيلٌ

فينقلني إلى بهو العزاءِ

لأنزل في قلوب الناس ضيفًا

تُضيّفني أماراتُ الوفاءِ

أصافحهم وكفّ الطيف ذكرى

فأسبر غور من أبقى لوائي

وأطفو في أثير الروح طفواً

لأسخر من فقاعات الرياءِ

وأرقد باسْمِ من يهوى عيوني

وأُسهِر أعينًا عشقت شقائي

وأرجع من جديدٍ بعد موتي

لأكتب عن رثائي واصطفائي

فماذا لو.. تحقق لي جنونٌ

أثارته القصيدة في سمائي!

 (4)

وماذا لو يُزاحمني شعورٌ

بأن النّقص ينبوع امتلائي

لأنّي كلّما جفّت دموعي

سُقيتُ تجلّدًا دون ارتواءِ

فأشرب نخب إيماني بفخرٍ

كأنّ تجاربي وطني ومائي

وأملأُ كأسَ خيباتي بشعرٍ

لأقهر مَن بهِ شغف استيائي

الرمق الأخير

أمَا إنّي

دفنتُ صدى اكتراثي

بثوبٍ ما تمرّغ في ثراءِ

فماذا لو تجاوزتُ ارتيابي

ولم أجمع وأطرح في غبائي

لأنّ مسائل الدنيا قياسٌ

تأسّس فوق أجنحة الهواءِ

جناحٌ يحمل الأسبابَ حملًا

وآخر ذَرّ “كُن” فدهى ذكائي!

 (5)

وماذا لو حملتُ على كفوفي

بقايَا الروح من أرض الجلاءِ

ولم أعبأ بحزنٍ لاغترابي

وألقمتُ الحنين غدًا إبائي

ولم أُجهد ظنوني حول كوني

مع الوطن الهمام لفي بلاءِ

ومن منّا أساء ومن تعدّى

ومن لم يرعَ حقًّا للعطاءِ

لأني ابنٌ لآدم في أصولي؛

بذا المنفى سيكفيني إخائي

لأني بعد أيامٍ سأمضي؛

فمرحى بالتنزّهِ في القضاءِ

وماذا لو.. حنيني برزخيٌّ

فيحملني على البذل انتمائي!

 (6)

وماذا لو أُشخّص أصل دائي:

بسوء الظنّ مشلولٌ ولائي

وروحي إن تداوت بانعزالي

يشيخ الروح من فرط الخواءِ

وعيني مُذ شكت قِصَرًا بعمري

أحدّقُ في الأماني باعتناءِ

نواة الفتّ في كبدي صراعٌ

تمركز بين سعدي وابتلائي

وحجم الكون في موجات صَحوِي

جناح بعوضةٍ آذى صفائي

صميم القلب مسدودٌ بذاتي

ونزف الأم من ركن انزوائي

لذا لو عدتُ يومًا بعد موتي

سأنعش قلبها بصدى ندائي

فماذا لو.. أفقتُ على رحيلٍ

سيُذْهل كلّ طبٍّ عن دوائي؟

 (7)

وكيف إذا التقيتُ بروح جدّي

ونَدّتْ رجفةٌ ترجو احتوائي

فلم يُلْقِ انتباهًا لي بحقٍّ

وقال اليوم قد عزّ احتفائي

مُقَطّعةٌ هنا سُبُلي إليكمْ

ومنشغلٌ بحالي في جزائي

أما كنتم لنا أملاً كبيرًا

بدعوة خاطرٍ يرجو ارتقائي؟

أما كنا لكم وعظًا ورُحمى

لتلتفتوا إلى عرش استواءِ؟

فماذا لو.. وقفنا في فِنَاءٍ

وكل الخلق مرئيٌّ ورائي؟

 (8)

وماذا لو تلاشى في عيوني

بريق الغوث واستشرى مسائي

ظلام الكون يبدأ من ظنوني

بأني هالكٌ دون افتداءِ..

وفي ليل المهالكِ لاح نورٌ

كأنّ البدر خَفّ إلى لقائي!

هل انتبه النبيُّ إلى اشتياقي؟

و..

دبّ الخوف في صدر الرجاءِ!

أنا ما صُنتُ عهدًا بعد حبي

وآثرتُ الْتهائي والْتوائي

فماذا قد أقول له بربّي

إذا لمح التهاون في اقتدائي؟!

 (9)

وماذا لو لغات الناس فرّتْ

لأنّ الذعر جيشٌ لا نهائي

لأنّ الهول عرّى كل حرفٍ

ويجلد كل معنىً في الفراءِ

فلم يجرؤ ولو حرفٌ ببيتي

على وصفٍ لزلزلة الفَناءِ

ولم تجرؤ عيوني أن تجاري

ورب العرش يطوي في السماءِ

ينادي ذو الجلال على ملوكٍ

وردّ الخزي صمتٌ في انكفاءِ

كأنّ الخلق يلتقمونَ ذعراً

وشابَ الطفل من هول البراءِ

فأمٌّ مرضعٌ ها قد تخلّتْ

وشمسٌ من جهنّم في الفضاءِ

ولم أذكر موازينًا وصُحْـفًا

وحدّ السيف جسرٌ للمضاءِ

ونارٌ تحته مدّتْ يديها

على جوعٍ لذنبٍ في اختلاءِ

ولم ينظر خيالي لي بطرفٍ

لأحرز في نعيمي أو.. شقائي!

 (10)

“وماذا لو”

سؤالٌ مَسّ قلبي

أجاريه لأبدأ بانتهائي

يُسَاءِلُنِي فُتَاتًا من بَيَانِي

وفي كفّيهِ مخطوطٌ فدائي

وطيفي من زقاق الضعف آتٍ

يشكّك في افتراضات ابتدائي!

تُرى لو عدتُ حقًّا بعد موتي

سأمعن في صلاتي واهتدائي؟

سأعنى بالكلام على نِصَالي

لأسلم من مغبّات افترائي؟

سأدركُ أنّ أيّامي كيومٍ

دقائقهُ تروم إلى اختفائي

فأُعلي شأن عيشٍ سرمديٍّ

وأهرب من زوالي للبقاءِ؟

أظنّ بأنّني لن أعدو كَوْنِي

على حالي؛ فلن أُضني مِرَائِي

لأنّ النفس تنسى جرح أمسٍ

وتذهل عن غدٍ تحت الغطاءِ

 (11)

فماذا لو.. حَبستُ طيور غيّي

ورفرفت السماوة في خِبائي

وقمتُ أدور في أفلاك طهرٍ

أهزّ الرأس والتقوى عَشائي

أقول لقلبي المفتون: كلّا

سأجعل متعتي تحت الحذاءِ

ودَوّتْ ضحكةٌ من ثغر طيفي

ليسخر من جموح الأبرياءِ!

فماذا لو تزوّجت الأماني

فتورَ النفس كي ترعى هرائي؟

وماذا لو جعلنا آي ربّي

ربيع الصدر في صيف البِغَاءِ؟

وماذا لو..

نهلنا من معينٍ بكفّ المصطفى؟

يا للسقاءِ!

 (12)

وماذا لو ملكتُ زمام أمري

وجَنّبتُ الخطى فخّ التنائي

لأنّي قد رأيتُ بأمّ عيني

حديث الناس هاوية الرُّواءِ

أنا لو عدتُ يومًا بعد موتي

سأحشو القطن في أذن الدهاءِ

أصون وسامتي وأبيع فهمي

بسوق تغافلٍ يُثري نقائي

سأعتبر الحياة مزارَ عيني

وكلّ الناس نقشٌ في القِبَاءِ

فيخطف ناظري رسمٌ أنيقٌ

وأذهل عن ضئيل فسيفساءِ

ألا أنّي قُبرتُ وكان ديْني

حديثًا لم يمت بعد اعتدائي

فماذا لو.. أُدرّب سوط ثغري

على صمت المقابر في الرخاءِ؟

(13)

وماذا لو تجدّد لي بهائي

بماء جلالةٍ أندى حيائي

فكيف إذا ذكرتُ لقاء ربّي

أقوم ولم أُسطّر في الثناءِ

وأسرد رحمةً أرختْ حِبالاً

تُبلّغني بمشية سلحفاءِ!

هو الربّ الغنيُّ عن البرايا

وفي لطفٍ يُروّض لي جفائي

عظيم الشأن يستر ستر مَـنٍّ

ويبسط بسط جودٍ في اعتلاءِ

فماذا لو تعلّق نبض ودّي

بمدركِ خاطري عند الدعاءِ

بمن غمر الهزائم بالتمنّي

وسقيا الخير لم تبرح دِلائي

وماذا لو.. تضاءل كلّ حرفٍ

أمام المدح في حرم السخاءِ!

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى