أدبي

إلحاد

قصة قصيرة

وقت النشر : 2022/02/13 02:55:45 AM

إلحاد
بقلم: أسماء أحمد

اشتاقت روحي لنفسي التي فارقتني، للحياة بمعناها الحقيقي، وسرعان ما رُدت إلي حينما هاتفت صديقي عمر، الذي أعاد صوته سيلا من الذكريات الجميلة بيننا.
شعرت بالحنين والاشتياق إليه، وفرحت لقرب لقائي به، وأخيرا سيتحقق أملي قريبا في العودة من بعثتي للخارج.

عندما وصلت إلى مصر، هاتفته فعلمت أن ابنه الوحيد قد توفاه الله منذ شهور، ولم يبلغني، فصدمت لهذا الخبر، ووعدته بالزيارة على الفور.
أشفقت عليه، وشعرت بالحزن الشديد لأجله، حتى أنني لم أستطيع النوم ليلتها؛ لقد كان ابنه( علي) روحه وحياته، طفل بريء، ملاك لم يكمل عامه الرابع بعد.

وفي الصباح ذهبت لرؤيته في فيلته، فقال لي الحارس أنه قد باعها، فسألته عن عنوانه الجديد، فأعطاني إياه، تعجبت كثيرا حيث أنه يقطن في منطقة لا تليق به أبدا، ومكانته الاجتماعية، فماذا يا ترى قد حدث له؟!

ذات صلة

ذهبت على الفور لأراه، وأعرف ماذا حدث، وعندما ضغطت على جرس الباب فتح لي رجل، صدقوني لم أعرف أهو حقا صديقي أم لا؟
لقد بدا لي كبيرا في السن، أشعث، كثيف اللحية بهندام غير مرتب، وعندما تأكدت أنه هو بادرت باحتضانه طويلا، ثم قال لي تفضل، وقد لاحظ تعجبي من هيئته التي بدا عليها.

قلت له في حيرة:
– ماذا حدث لك يا عمر؟ احكِ لي، وما سبب وفاة ابنك علي؟
أجابني بحزن بالغ:
– مات ابني يا أحمد، قطعة من روحي فارقتني.
بادرته بالسؤال:
– كيف مات؟ وأين زوجتك؟
سارع بالرد:
– طلقتها.
تعجبت: طلقتها! طلقت زوجتك! حب عمرك؟ إنني لم أرَ في إخلاصها لك ومساندتها مثيلا.
قاطعني، وقال باستهزاء:
– وأنا أيضا لم أر أحدا في خيانتها.
كنت أعيش حياة سعيدة معها، وولدي ثمرة حياتي، تلك التي اعتقدت إخلاصها ومحبتها لي، وكانت الحياة تسير على ما يرام، مشغول بعملي وشركاتي وأعمالي الخيرية، إلى اليوم الذي جاء وانقلبت فيه حياتي رأسا على عقب، حيث تأكدت من خيانتها لي مع عميل مهم لدينا بالشركة، وعلمت بعد فوات الأوان أنها قد اتفقت معه على سرقتي، وتقسيم المال بينهما. فباعت عقود بعض الشركات لنفسها عن طريق التوكيل الذي قد منحتها إياه من أجل أن تباشر وظيفتها معي في حرية تامة، هذه من وثقت بها وسلمتها أموالي!
طلقتها و تابعت عملي، وحاولت تعويض خسارتي، ولم يكن هذا الأمر بالسهل علي، بل إنه كان ضربة قوية لرجولتي، حيث تزوجته بعد طلاقنا.
ولم يمر شهر على ذلك حتى تعرض ابني لحادث، نقلته على إثرها إلى المستشفى، ولكنه قد فارق الحياة، ومن بعدها تدهورت حالتي.
لم أعد أهتم بعملي، بدأت الخسارة تتزايد واحدة تلو الأخرى، وهرب العملاء مني، حتى الفيلا التي كنت أسكنها اضطررت لبيعها، حتى أستطيع أن أسدد ديوني وأعيش.

استمعت إليه بدون مقاطعة مني، تركته يتحدث ليريح قلبه المفعم بالحزن على ولده، وما آل إليه وضعه، ثم ربتُ على يديه بهدوء، وقلت له:
– الحمد لله على كل حال
فوجدته قد انتفض واقفا بعد أن سمع كلمتي هذه، وقال بعصبية شديدة، وقد ارتفعت نبرة صوته:
– أي إله هذا الذي تتحدث عنه؟ لا يوجد إله كما تزعمون، أين هو الآن؟
إنني كنت أصلي وأصوم وأزكى وأتقرب إليه بكثرة أعمالي الخيرية؛ من بناء المساجد والمستشفيات ومساعدة الشباب وتجهيز الفتيات للزواج، ليبارك لي في مالي وزوجتي وابني، وبعد كل هذا لم أحصد سوى الأحزان!
ألم يشفع لي ذلك عنده؟
ابني قد ضاع مني، فلذة كبدي، أتشعر بمعاناتي بعد أن فقدت ابني الوحيد؟

ثم استطرد بعد أن جلس على مقعده، وأشار إليَّ بإصبعه السبابة، وقال:
– إن فكرة الإله هذه التي تتحدثون عنها لا أصل لها ولا وجود، لا وجود لخالق ولا معجزات أنبياء، وإننا جميعا نخضع لقوانين الطبيعة التي تتحكم في جميع المخلوقات، وليس هناك ما يعرف بالحق والعدل..

صدمت من الكلام الذي صدر منه، وشعرت أنه ليس صديقي الذي أعرفه، إنه حقا قد تبدل فكرا وشكلا.
قلت له بتعجب:
– ما الذي حدث لك؟ من وضع تلك الأفكار في رأسك؟
أموت ابنك يفعل كل هذا بك؟ إنه الابتلاء الذي إن صبرت عليه نالك عفو الله وغفرانه، وعن زوجتك فلتحمد الله أنه قد أنار بصيرتك، وأبعدك عنها، وسيجمعك الله بولدك في الجنة بإذن الله.

رد علي باستنكار، وقال:
– تقول جنة؟
تلك الحياة الأبدية التي صدعنا بها أولئك الشيوخ، لم أعد أؤمن بها أبدا.

وبعد حوار طويل معه وجدت نفسي غير قادر على إقناعه بالعدول عن أفكاره، فقلت له وأنا مستعد لمغادرته:
– سأعاود زيارتك مرة أخرى، وسأحضر لك معي شخصا عزيزا على قلبك.

خرجت من عنده، وأنا أتساءل: ما سبب ذلك التغير الجذري الذي حدث له؟ أهي الصعوبات والابتلاءات التي نواجهها؟ هل من الممكن أن تؤثر علينا بتلك الصورة؟ معتقداتنا، فطرتنا السليمة؟
ثم قررت الذهاب في اليوم التالي لشيخنا الجليل؛ مَن علمنا القرآن الكريم في الصغر، وما زلنا على علاقة ودودة به، فهو الوحيد الذي يستطيع إنقاذه.
قابلته وحكيت له ما حدث، فكان أشد مني تعجبا للحال التي أصبح عليها عمر، وتواعدنا على الذهاب إليه، وعندما وصلنا إلى بيته شاهدنا كثيرا من الملحدين المعروفين، وقد خرجوا من بيته.
فقال لي الشيخ محمد:
– أتعلم أن هؤلاء الملحدين من صفوة المجتمع وخيرة علمائه؟! والله إنها لحرب على الإسلام، ولا بد أن نسارع بإنقاذ عمر منهم، وإلا ستكون النهاية وخيمة.

دلفنا إلي بيته بعد أن فتح لنا الباب، فقال له الشيخ بغضب شديد:
– من عَرَّفك بهولاء؟ أهم من دسوا تلك الأفكار في رأسك؟

رد عليه بعصبية أيضا، وقال:
– أرجوك، لا تتحدث عنهم بسوء فهم، من لجأت إليهم بعد أن فقدت الثقة في الجميع، وخسرت كل شيء، ووجدت لديهم ضالتي، اقتنعت بأفكارهم ومنهجهم.
لماذا نتعب أنفسنا بأعمال لا فائدة منها، فلا يوجد إله خالق كما تدعون، أين هو الآن مما أنا فيه، لقد ساء بي الأمر حتى بدأت أتناول تلك الأدوية، ولم يساعدني بالرغم من سابق عبادتي له؛ إذن هو ليس موجودا.

قال له الشيخ متألما:
– اصمت يا بني، كيف تتحدث عنه بذلك السوء، واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور.
أتنكر القرآن الكريم، المعجزة الربانية، الذي جاء بلغة العرب الفصيحة، الذين لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله ولو آيه؟
انصت معي لقوله تعالي:
” أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)” [ سورة مريم]
وقوله تعالى:
” أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (2) ” [ سورة المرسلات]
والكثير من الآيات التي تدلنا على وجود الإله الخالق، فوجود الله أمر بديهي من الناحية الفلسفية البديهية.
وحينما تقول لي؛ أين هذا الرب؟ معناه أنك مقتنع بوجوده، ولكنك تسأل عن غيابه، وما يضرك الآن لو حكمت عقلك، ورجعت إلى رشدك، وابتعدت عن هؤلاء الملحدين الذين سيكونون سببا في خسارة دنياك وآخرتك؟
ماذا سيحدث إذا مت ووجدت بعد موتك أن هناك ثوابا وعقابا، وعلمت أن أفكارك كانت خاطئة؟
ستعذب بذلك حينها، أما لو ابتعدت عن تلك الافكار، وآمنت بوجوده، واحتملت، وصبرت قليلا في دنياك، فلن تخسر شيئا، وستنال رضاه وعفوه عنك في الآخرة.

شعرت أن حديث الشيخ معه كان مؤثرا، فقد بدا منصتا، ولم يقاطعه، وكأنه يراجع نفسه، ويعيد أفكاره.
ثم استطرد الشيخ، وقال له بحماس:
– ألا تعرف يا بني، لماذا يلحدون؟

رد عليه، وقال متلهفا:
– لماذا؟
أجابه بقوله:
– إنهم لا يريدون الحساب على أفعالهم؛ سواء كانت حلالا أم حراما، حقا أم باطلا، يريدون الجور على حقوق الآخرين بدون رادع لهم عن أفعالهم، حب الشهوات أيضا الذي يتملكهم بدون ضوابط تحكمهم، ومنهم من يخاف الله تعالى حقا، ولكن الأسهل لهم أن ينكروا وجوده لكيلا يتملكهم الخوف أكثر.

ثم دنا من عمر، وربت على يديه، وقال له تفكر في الأمر يا بني، فلقد عهدتك إنسانا عاقلا ملتزما، استودعناك الله.

ثم خرجنا من عنده ودعونا له بالهداية.
مر على لقائنا به يومان، وبينما أنا في بيتي دق جرس الباب بعنف، فتحته فوجدت ضابطا يقول لي باستفهام:
– أأنت أحمد؟
قلت وأنا مضطرب:
– نعم أنا، ما الأمر؟
قال لي:
– أنت مطلوب في قسم الشرطة، ولا بد أن تحضر معنا الآن.
تعجبت، وقلت له:
– ولمَ؟ أنا لم أفعل شيئا.
رد علي بقوله: ستعرف كل شيء هناك.

ذهبت معهم، ثم دلفت إلى غرفة الضابط حيث كانت صدمتي الكبرى؛ حينما علمت منه بمقتل صديقي عمر في شقته، وأنهم وجدوا على مكتبه ذلك الخطاب الذي أعطاه لي لقراءته، حيث كتب لي فيه:
” صديقي العزيز، لقد اقتنعت بحديثك معي، وحديث شيخنا الجليل، فلقد كان هناك شيء ما بداخلي يحدثني بأن ذلك الطريق غير صحيح، وخاصة أنهم طلبوا مني أن أتحدث مع من أعرفهم، وأزج بهم في ذلك الطريق، ولكنني كنت في حيرة من أمري، ومن وضعي الذي ساء، فأصبحت فريسة لهم ولأفكارهم، وبعد لقائنا معا جلست مع نفسي؛ أتذكر كل ما مر بحياتي. فوجدت أنه من كان يقف معي في أصعب اللحظات وأشدها، ومنها تلك الأيام التي تعرفها جيدا.
أتتذكر يوم أن مرضت وعجز الأطباء عن علاجي، وتوجهت إليه بالدعاء حتى مَن علي بالشفاء، فما كان من الأطباء إلا أنهم قالوا والله إنها لمعجزة ربانية، فلقد كانت نسبة شفائك لا تتجاوز العشرة بالمئة؟
وهناك الكثير والكثير من الحكايات التي مرت علي، ووجدت فيها لطفه بي، ورحمته، وبأنه معي.
فالحمد لله أخي، لقد ندمت على ما فعلت، وأقولها لك الآن، ومن قلبي:
” أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله”
ولكنني خائف جدا منهم، فلن يتركوني في حالي، ولقد تلقيت منهم تهديدات بقتلي إن لم أنفذ طلباتهم.
إنهم يريدون مني أن أنشر هذا الفكر بين الشباب، ولكني لن أنفذ ما طلبوه، ولقد كتبت إليك من أجل ذلك، فلربما كانت النهاية قريبة، ولن أراك ثانية، ولئن قرأت خطابي هذا، وقد فارقت الحياة، فادع الله لي بالمغفرة والرحمة، وأخبر الشيخ محمد بأني أحبه جدا”

ثم أغلقت الرسالة، وفهمت ما حدث له، وسبب استدعائهم لي، فلقد عرفوا أني صديقه المذكور في الرسالة من تحرياتهم، ثم أخبرت الضابط بكل ما أعرف، وخرجت من عنده ولدي شعوران يتملكاننى؛ شعور السعادة بتوبته وهدايته قبل موته، وحزني لفراقه.
رحمك الله صديقي الغالي، ومن أحببته في الله، ولكن على وعد باللقاء في جنة الخلد بإذن الله.

تمت المراجعة والتنسيق من قبل فريق ريمونارف

زر الذهاب إلى الأعلى