أدبي

ليل عادي

ليل عادي

وقت النشر : 2022/02/23 07:23:32 PM

ليل عادي

بقلم: نعمة رشاد حسن

– وأخيرا، انطلقت الحافلة..
تمتمتُ في ارتياح بعد ساعات من الانتظار والمشاجرات والمشاحنات واللعنات التي تساقطت على رؤوس كل العاملين بالمحطة.
اعتدلت بجلستي محاولا إغلاق النافذة لأجدها مكسورة كالعادة.
– لن يتوقف هذا البلد عن إثارة دهشتي أبدا كما يبدو..

حدثت نفسي ساخرًا وضممت معطفي استعدادا لليل بارد طويل، والحافلة تتهادى ببطء وكأنها تمشي على زجاج.
زفرت بضيق وقررت تسلية وقتي بقراءة رواية جديدة أحضرتها بالأمس فقط، حين اكتشفت أني قد نسيت إحضار عويناتي، وهي لعمري، مأساة حقيقية سأدفع ثمنها غاليا خلال تلك الرحلة الملعونة!

حاولت تهدئة نفسي متطلعا للنوم كنوع من الهروب، فالطريق طويل ومظلم وهي مأساة أخرى، فالنوم داخل الحافلات والقطارات ليس من المهارات التي أجيدها أبدا ولكن – وللغرابة- حدثت المعجزة وغططت في النوم فعلا لأستيقظ على صوت فرملة قوية ومجموعة منتقاة من السباب يوجهها الركاب للسائق المتهور، لتدخل على إثرها أم وفتاة صغيرة من باب الحافلة الخلفي.

كانت الفتاة ربما في العاشرة، يبدو عليها وأمها رقة الحال، كحال أغلب ركاب الحافلة رخيصة الثمن.
جلست السيدة وابنتها خلفي مباشرة، لم أهتم كثيرا، وأعدت رأسي لموضعها في محاولة جادة للعودة للنوم، ولكن محاولتي لم تنجح هذه المرة على الرغم من تجاوز الساعة الثالثة صباحا، وذلك الهدوء العام الذي ساد الحافلة بعد أن نام معظم الركاب لم يقطعه سوى دندنات الفتاة التي لم تتوقف منذ جلست بالمقعد الخلفي، وما زاد الطين بلة أن الطفلة كانت تنقر بأصابعها الصغيرة خلف رأسي كنوع من الإيقاع.

– سيدتي.. هلا حاولتِ إسكاتها قليلا رأسي سينفجر من الصداع!
– إسكات من؟!
قالت باستغراب
– ابنتك الصغيرة لم تكف عن ضرب رأسي بيدها منذ صعدتما الحافلة.
كنت أقول أنها مجرد طفلة، ولكن الوضع صار سخيفًا حقا!
– طفلة؟ ورأسك؟ عمن تتحدث؟ وأي طفلة، وأي سيدة؟
قلتُ بغضب:
– هذه يا سيدتي، هذه الطفلة الجالسة إلى جوارك، ألا ترينها؟

ضربت المرأة كفًّا بكف بتعجب وغضب شديدين:
– بل أنت الذي لا ترى، أولا: أنا رجل، ثانيا: أجلس وحدي بمقعد فارغ، ثالثا: لست متزوجا، رابعا: ليس لدي أطفال، خامسا، وهو الأهم: هل أنتَ مجنون؟

رددتُ بغضب:
– بل أنتِ المجنونة أيتها السيدة، أنتِ وابنتك الحمقاء هذه!
– أنا مجنون؟ ليس هناك من مجانين غيرك هنا.

ثم ضحك ساخرًا:
– مجنون وأعمى!

التف الركاب حولنا محاولين فض الاشتباك اللفظي بيننا، بينما قلت أنا متصنعًا الهدوء:
– كفى؛ إن أخلاقي لا تسمح لي بضرب امرأة..
– إمرأة!

وما كدت أقول هذا حتى عاجلتني بلكمة قوية دون إنذار، مرددة عددًا لا بأس به من الشتائم المعتقة، وبينما أحاول ضبط سلوكي حتى لا أصفعها، توقف السائق فجأة وقرر التدخل، ومن ثم طردي خارج الحافلة، وقد فوجئت بأن الجميع قد أيدوا فعلة السائق الشنعاء.
وفي حين كنت ألملم كرامتي، وبضع أشياء أخرى تناثرت من حقيبتي التي ألقوها بوجهي على الطريق الخالي، كانت الفتاة تنظر لي ضاحكة في شماتة، وفي يدها عويناتي التي أعلم جيدًا أني قد نسيتها فوق مكتبي هذا الصباح..

٣ ديسمبر ٢٠٢١

تمت المراجعة والتنسيق من قبل فريق ريمونارف الأدبية..

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى