أدبي

اللعنة

وقت النشر : 2022/04/13 08:30:52 PM

اللعنة
بقلم: أسماء أحمد

 

الدماء تتناثر في كل مكان، أجري لألحق

بأخي وبيدي السكين، أشعر بأني منهكة،

متعبة، وكأني أركض منذ سنوات، جسدي

يرتعد، إرادتي مسلوبة، وأبي يتوسل إلي

في مشهد لم أره من قبل، صوت القرآن

يدوي في أذني، أصرخ بداخلي، ولا أحد

يشعر بي، لا أعلم ما أصابني، ولم أعد

أحتمل، فسقطت مغشيا علي..

فتحت عيني، وجدت أبي يجلس بجواري،

ويداه الحانيتان تمسح على شعري، وأنا

مستلقاة على سريري أشعر بالتعب

والإجهاد.

تذكرت كيف كانت تسري حياتنا قبل أشهر

من الآن؛ حيث كانت أمي هنا في هذا

البيت تملؤه ودا وحنانا، ولكنها غادرته،

بكيت وبكى كل ركن فيه لفراقها، شعرت

باحتياجي إليها، دخلت حجرتها، وقعت

عيني في المقابل على تلك المرآة المعلقة

على الحائط، أعلم انها كانت تحبها،

فلديها برواز ذهبي لامع يخطف الأنظار،

نظرت إليها وأنا منبهرة بها، تذكرت أمي

حينما كانت تجلس أمامها طويلا؛ تمشط

شعرها وتتزين، فتبدو في أبهى صورة، ثم

عزمت على نقلها إلى غرفتي حيث أنها

تذكرني بها، وأنا مشتاقة إليها.

جلست على سريري المقابل للمرآة أقرأ

روايتي المفضلة إلى أن يغلبني النوم،

وفجأة انقطع التيار الكهربائي، وكان

بجواري شمعة أشعلتها، ثم تابعت

القراءة.

أطلقت بصري تجاه المرآة، فحدث ما

جعلني أنتفض من مكاني، نزلت من على

سريري أبحث عني في المرآة فلم أجد

صورتي بها.

أغمضت عيني وفتحتها، وإذا بصورة

امرأة عجوز مخيفة عيونها بيضاء

وشعرها أشعث، أسنانها كبيرة، تبدو

بهيئة مرعبة قبيحة، كاد أن يتوقف قلبي

وأنا أنظر إليها، تسارعت أنفاسي، ازداد

نبض قلبي، خرجت من الغرفة مذعورة

أنادي أبي وأخي.

أتى أبي مسرعا وعندما رآني بهيئتي تلك

احتضنني بقوة وأخذ يهدئ من روعي،

حكيت لهما ما حدث، ولكن والدي لم

يصدقني، وقال لي وهو يطمأنني:

– أنت فقط متعبة، أي عجوز تلك التي في

المرآة؟! تعالى لنرى ولا تخافي.

دلفنا إلى الغرفة، نظرت وأبي إلى المرآة،

فلم نجد شيئا، فحدثتُ نفسي لربما كانت

الأوهام، ثم طلب مني أن أنام في سريري

وسيتفقدني أثناء نومي، ثم وضع قبلة

على جبيني وهو يتمنى لي نوما عميقا.

أغمضت عيني، حاولت أن أنام، لم

أستطع، وفجأة شعرت أن شخصا ما يرفع

الغطاء عني، قلبي أخد يدق سريعا،

استدرت بوجهي إلى الجهة الأخرى

وجدتها هي؛ من رأيتها في المرآة، تصببت

عرقا، لم أعد أحتمل دقات قلبي السريعة،

ثم توجهتْ نحو المرآة واستدارت لتقف

أمام سريري تحملق في، لملمت نفسي،

غطيت وجهي كله ولم يبق ظاهرا مني

غير عيني..

قلت لها وأنا أرتعد:

– من أنت، ماذا تريدين مني؟

ضحكت بطريقة هستيرية، ثم دلفت إلى

المرآة مرة أخرى.

وفي الصباح وعلى مائدة الإفطار سألت

والدي؛ كيف ماتت أمي؟

رد علي بتعجب:

– ولمَ تسألين الآن؟! لقد نسينا هذا الأمر

قلت بحزن:

– لم أنسَ أبي، إنها أمي مَن ماتت، ولم

نعرف سر موتها بتلك الطريقة التي

شاهدتُها عليها عندما استأذنتها يوما

بالدخول إلى غرفتها، فلم ترد علي،

وعندما فتحت الغرفة وجدتها غارقة في

دمائها، وشرايين يدها قد قُطعت..

رد علي بهدوء:

– حبيبتي، لقد كان للطب الشرعي كلمته

في أنها جريمة انتحار.

قلت بتعجب:

– ولمَ تنتحر أمي؟ أتعلم شيئا؟

رد في حيرة، وقال:

– لا أعلم، ولكنها كانت في الفترة الأخيرة

شاردة الذهن، تشكو عدم قدرتها على

النوم، يتقلب مزاجها بين الفرح والحزن.

ذهبنا إلى الطبيب وأمرني أن أظل إلى

جوارها، وأعطاها بعض الأدوية التي

تساعدها على النوم والهدوء، ولكن حالتها

ساءت إلى ذلك اليوم الذي وجدناها وقد

انتحرت.

فلتدعي لها حبيبتي، ولا تنهكي عقلك في

التفكير، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم

يكن.

 

مرت الأيام، ولم أرَ تلك العجوز، وذات

ليلة سمعت أخي يصرخ بشدة، ذهبت إليه

مسرعة، وسألته ماذا حدث؟

قال لي وهو مذعور:

– سمعت أصواتا غريبة، سيدة عجوز

بشعة ظهرت أمامي ثم اختفت فجأة.

جلست بجواره حتى هدأ، ثم ذهبت

لأغسل وجهي، رأيت الدماء تنزل من

الصنبور بدلا من الماء، الأثاث يقع، نيران

توقد في كل مكان ثم تطفأ، سمعت

صوتها تضحك، ولكني لم أرها.

اتجهتُ إلى غرفتي، أصابني الذهول

والرعب حينما وجدتها تجلس على

سريري، ثم اقتربت مني بهيئتها البشعة،

وأخذت تتمتم بعبارات لم أفهمها، ثم

أغشي علي، وحينما أفقت أحسست أني لا

أشعر بنفسي، فقدت شهيتي للطعام،

أصبحت هزيلة لا أقوى على الخروج،

ازدادت عصبيتي مع أبي وأخي، لا أطيق

أن أجلس معهما، أجلس وحيدة بحجرتي،

وأنام كثيرا.

عرضني والدي على الأطباء وأجمعوا ألا

شيء بي، وعليهم ألا يتركوني وحيدة،

فلقد كنت أشبه بالمغيبة؛ أعيش في عالم

آخر.

 

بدأ أبي يراقبني، يشاهدني بهندام غير

مرتب وشعر متناثر، يوجه الحديث إلي

فلا أعطيه اهتماما، نظراتي المرعبة إليه

كانت تخيفه أكثر علي، وقد شاهدني وأنا

أبحث في أدراج المطبخ وسألني ماذا

تفعلين؟ فلم أعطه جوابا، وقتها أدرك أن

هناك كارثة ما في الانتظار.

ولقد كان أشد ما مر على نفسه وقت أن

أنقذ أخي من يدي حينما وضعت الوسادة

على وجهه، وكاد أن يموت، وكان دوما

يدعو الله ويترجاه بأن يشفيني بعد

قراءته للقرآن كعادته كل يوم، حتى

جاءت تلك الليلة التي هزت قلب أبي

وأخي، فما علمته منه كان صدمة لي؛

حيث قال لي بحزن:

– إنها كانت ليلة باردة من ليالي الشتاء،

سمعنا بالبيت أصوات صراخ، النوافذ

تفتح وتغلق، زجاج الغرف يتكسر،

انقطعت الكهرباء، ذهبت لأطمئن عليكِ

فوجدتك في نهاية الممر المؤدي إلى غرفة

أخيك، تحملين معك سكينا، جريت لألحق

بك ولكنك اقتربت منه وطال حد السكين

يده فأدماها، فأخذ يجول في كل أنحاء

البيت هربا منك، وأنا أحاول اللحاق بكما

وأطلب منك أن تكفي عما تفعلين، ثم

وأخيرا تمكنتِ منه وأنا أترجاك أن تتركي

السكين، وإذا بك تضغطين بقوة على عنق

أخيك وكنتِ على وشك قتله.

جلست على ركبتيي أمامك أستعطفك،

أبكي وأرجوك بألا تفعليها، فليس لدي

سواك وأخيك، ولم أجد بوسعي سوى أن

أقرأ القرآن، حتى وقع السكين من يدك،

وسقطتِ مغشيا عليك.

ذُرفت دموعي من أجلك، حملتك

ووضعتك على سريرك، وجلست بجوارك

أدعو لك.

وبعد أن أنهى أبي حديثه شعرت كم كان

الموقف مهيبا صعبا علينا! طمأنته، فلقد

أصبحتُ بحال أفضل، وبعد قليل تسللت

الشمس من خلال نافذتي لتعلن بداية يوم

جديد، قرر فيه أبي الانتقال لبيت آخر،

ولربما تكون بداية جديدة ننسى فيها كل

ما حدث وما مر علينا من حزن وألم.

 

انتقلنا إليه، وعندما دلفنا نتفقد حجراته

وجدت لوحة مرسومة معلقة على

الحائط، وعندما دققت النظر فيها أصابني

الذعر والخوف؛ إنها اللعنة التي أبت أن

تتركني أعيش بسلام، إنها العجوز بعيونها

البيضاء..

 

زر الذهاب إلى الأعلى