أدبي

المنحة الإلهية

وقت النشر : 2022/04/22 06:49:21 AM

المنحة الإلهية

بقلم: بانسيه محمد فضل

المنحة الإلهية

جلست “منى” بشرفة غرفتها تائهة حائرة يمر بمخيلتها شريط من ذكريات عمرها الفائتة، ترقرقت دموعها كاللؤلؤ على خديها بعد أن تنهدت تنهيدة عميقة أحرقت صدرها كنارٍ مشتعلة فما مر عليها ليس بالسهل الهين ولا بالذي تستطيع نسيانه لكن قطع حبل أفكارها رنين الهاتف بلا توقف..فردت عليه:

-أهلاً منى، كيف حالك الآن؟ أنتظرك نحتفل بعيد ميلادك.

-نحتفل؟ وهل لعيد ميلادي قيمة وهو ليس بجواري؟

انسابت دموعها فاعتذرت إلى صديقتها لأنها متعبة قليلاً وستخلد للنوم، لكنها لم تستطع أن تفعل ذلك، جلست تتصفح صورها معه وكيف كان كل حياتها، كانت تتنفسه عشقًا وتشعر بألمه وتسعد لفرحه.

نهضت وسحابة من الدموع قد أغلقت عينيها، كأن غيمة من حيرة أغلقت عقلها.

مر عليها الليل بطيئًا خاويًا من الهدوء فلقد كان صخب أفكارها يغطي على سكون الليل وأنين قلبها يقطع الصمت، حدثت نفسها :

_ إنه أول عيد ميلاد لي وهو ليس معي، فهل لا يزال يذكره أم أنه قد نسي كل ما كان بيننا، ثم سألت نفسها ما السبب؟

هل الحب لم يعد له مكان في زمن طغت عليه الواقعية؟ أم أن الأنانية وحب الذات صارا من المسلمات؟

تمنت لو جاءتها رسالة على هاتفها منه:

(عيد ميلاد سعيد يا أغلى من فقدت).

لكنها مجرد أمنيات، فأغلقت الهاتف وظلت تفكر، هل تسرعت في طلب الانفصال عنه رغم حبها له؟ لكنها لم تتحمل معرفته بامرأة أخرى وهي تحبه، لم تتخيل أن يشاطرها فيه أحد حتى لو كانت تهيم به عشقًا.

رجعت بأفكارها ليوم زفافها كيف كانت تمتلك الكون بأكمله، فلقد تزوجت ممن تحب وتلهفت لذلك اليوم وصبرت سنوات وسنوات لتحظى به.

كانا كطيورٍ محلقةٍ تتعجب كل عين تراهم من تقارب أرواحهم وانسجامهم ولكنّ من الواضح أن سهم عيون الحاسدين أصاب عش زواجهم.

تذكرت ذلك اليوم الذي جاء فيه يبكي ودموعه تسبقه أنه يحبها وأمه تريد منه الزواج ليحظى بنعمة الأطفال وهو لا يريد سواها.

فأجابته ودموعها تسبقها:

-تزوج حبيبي ولكني لن أتحمل رؤيتك بأحضان امرأة غيري فاتركني أولاً.

-لكنني لن أقوى على العيش بدونك

-ولا أنا، لكنه حقك في أن تكون أبًا وأنا عجز الأطباء عن إيجاد حل لمشكلتي.

-لا لن أفعل ذلك فلن أستطيع أن أحرم منك أبد العمر.

لكنه من الواضح أن الفعل غير الكلام؛ فلقد استجاب لإلحاح والدته مع الوقت، وقبل بالزواج من ابنة خالته الأرملة.

وظن أنه سيضع زوجته الأولى في مواجهة الأمر، وأنها ستقبل بالاستمرار معه، لكنها لم تستطع.

نعم لم تستطع أن تشتم بأنفاسه عطر امرأة أخرى شاركته يومه ،شعرت بصدرها يختنق من الغيرة، وطلبت الانفصال.

حاول معها مرات ومرات لكنها رفضت وفضلت أن تعيش وحيدة على أن تعيش مع نصف رجل.

مر عام على زواجه حتى الآن ولا تزال تحبه، لم تستطع نسيانه، تدور بفلكه وتعيش بذكرياته.

في صباح اليوم التالي، خرجت لعملها و قد أطاح برأسها صداع رهيب من أرِقها ليلة أمس.

تصفحت هاتفها بالكاد لترد على رسائل صديقاتها فلقد مر وقت على عدم فتح رسائلهم لكنها فقدت النطق من الصدمة!

هل ما قرأته بالرسالة صحيح، لقد ماتت زوجته وهي تلد طفلها منه!

كيف ذلك ومتى حدث، تضاربت المشاعر بقلبها، هل تحزن على موتها؟ هل تذهب لتعزيته؟ هل هدأت نار الغيرة بصدرها؟

ثم حسمت أمرها بإرسال رسالة تعزية له ولكن مر اليوم دون أن يراها.

 ازداد قلقها فاتصلت به وسمعت صوته ضعيفًا خافتًا، وصوت بكاء طفل بجواره، تحجرت الكلمات بفمها، تلعثمت، لم تجد في معجمها ردًا مناسبًا، كأنما فرت الكلمات من فوق لسانها

حين قال لها:

-لقد حظيت بالولد وفقدتكما

-صبّر الله قلبك وبارك في ابنك.

 -ابني صار يتيم الأم، حتى أمنيتي حين حظيت بها صارت ناقصة.

صمتت برهة وازداد بكاء الطفل، سألته :

_أليس هناك من يرعاه بعد وفاة أمه؟

-تعرفين أن أمي صارت كبيرة في السن ولا تستطيع أن تهتم بطفل في أسابيعه الأولى، لذلك أخذت أجازة تلك الفترة من عملي لرعايته.

-بارك الله لك فيه وأعانك على رعايته.

أغلقت الهاتف وهي تفكر بذلك الولد، فأخرجت دفتر مذكراتها لتكتب فيه الآتي :

” كان من المفترض أن يكون ذلك الولد ابني منه ولكن إرادة الله فوق تدبير البشر”.

انهمكت في عملها ومر أسبوع منذ تلك المكالمة، حاولت نسيان ما حدث لكن دون جدوى.

بعدها تكرر الحديث بينهما هاتفيًا عن الولد والاطمئنان عليه، حتى جاء يوم فاتحها في أمر عودتها للزواج منه وأن تكون أمًّا لذلك الطفل اليتيم، وقال لها بصوت يملأه الندم :

_لم أنساك ولو لحظة واحدة، فأنا لم أحب غيرك أبد العمر، وحتى موافقتي على طلاقك كان استجابة لمطلبك حتى وإن كان جرحًا لي و لولا إلحاح أمي على زواجي من ابنة خالتي الأرملة لم أفكر يومًا في أن أعرف غيرك، وهي كانت تعلم بحبي لك ويأست أن تكسب قلبي حتى بعد حملها بولدي الذي لم يمهلها القدر لتراه.

صمتت قليلاً وشعرت بحنين قلبها إليه وتعلقها بالولد، خاصة بعد أن علمت أنه قد أسماه “زياد” كما كانت تتمنى أيام خطبتها، لكنها طلبت مهلة للتفكير.

خرجت من البيت غير محددة لوجهتها، كمن فقدت قدماه الطريق، تحدث نفسها من بين لهاثها:

-تُرى..هل بقي لدي وقت كاف ليمهلني أن…؟

لكنها صمتت لبرهة حين وجدته بطريق منزلها حاملاً ابنه.

وحملت الطفل عنه كأنه طفلها فبمجرد أن حملته خطف قلبها وشعرت بشعور تملكها لا يوصف من الخوف واللهفة عليه حتى الطفل نفسه شعر بدفء مشاعرها فتوقف عن البكاء وخلد للنوم.

ابتسم الأب ابتسامة رضا وردد:

-سبحان الله أن نام على يديك.

و بعد ذلك الموقف وافقت على العودة من جديد .

عادت “منى” لبيتها من جديد ولم تختلف علاقتهما عما سبق سوى خوفها الشديد على زياد وجعله في أولى اهتماماتها.

كانت تعامله كأنه ابنها هي وكأن الله أراد أن ينعم لكلاً منهما بما ينقصه، فلقد صار للولد أمًّا حنونًا وصار لها ابنًا طالما تمنته.

مرت سنوات، جاء لها “زياد” بدعوة من إدارة مدرسته لحضور حفل عيد الأم، سألها :

_هل أمي ستعلم بحبي لها؟

احتضنته “منى” وهي تحبس دموع عينيها

طبعاً ستعلم بدعواتك لها بكل صلاة، أنت طفل محظوظ لديك أمًّا بالدنيا، وأخرى بالجنة.

وأنا سأذهب معك للحفلة غدًا.

حضرت “منى” معه الحفلة واهتمت بتشجيعه حين قدّم فقرته الغنائية فقد حباه الله بصوتٍ رائع.

تم تكريم الأمهات وصعدت “منى” لتتسلم شهادة تقدير لتفوق ابنها “زياد” وشعرت بالفخر أنها أحسنت تربيته.

وفي طريق العودة شعرت بتعب أرهقها، تحاملت على نفسها حتى تسعد صغيرها الذي غمرته الفرحة بعد الحفل الجميل.

لم تتحسن لأيام فطلب منها زوجها أن تراجع طبيبها وخارت قواها من الصدمة:

إنها حامل! ليس بطفلٍ واحد بل بتوأم مرةً واحدةً!

كيف ذلك إنها معجزة من الله عجز عن حلها الأطباء كأن الله قد كافأها على اهتمامها بذلك الطفل اليتيم، مرت الشهور وأنجبت طفلتين رائعتي الجمال صارا أختين لزياد ورغم قدوم طفلتيها لم تسحب من رصيد حبها لزياد طفلها الأول المدلل.

أمسكت دفترها مجددًا، قرأت ما سطرته منذ سنوات

ثم ختمت كتابتها بكلمة لم تكن تعيها قبل اليوم

“لعل المنح تكمن في المحن”.

المنحة الإلهية

المنحة الإلهية
المنحة الإلهية

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى