أدبي

نقوش مملوكية

وقت النشر : 2022/06/03 07:05:47 PM

نقوش مملوكية

بقلم: محمود بكر

يمتطي صهوة جواده، تحيطه حاشيته من المماليك المعزية، موكب عظيم يليق بسلطان مصر،

ها هو يحقق المستحيل، ويصل إلى سدرة المنتهى؛ إلى العرش، نظرات العامة تتأرجح ما بين السخط والرضى،

أصوات تأتي من اللامكان: “نريد سلطانا من نسل الأيوبيين.”

ينثر عليهم الدنانير، يتهافت عليها المتهافتون، ولكن الصوت ما زال صداه يتردد: “نريد سلطانا من سلالة الأيوبيين،

لن يحكمنا مملوك مسه الرق، لم يولد على فطرة الإسلام، حديث عهد بالحرية.”

سعة صدره وحكمته تجعله يتغافل مرة ومرات، ولكن ماذا يفعل؟ هناك جبهات قتال كثيرة تحاصره من كل جانب،

“شجر الدر” زوجته المصونة التي لا تريد أن ترضخ لأمره، تريد أن تسيطر عليه، دائما ما تذكره بمنتها عليه،

وأنه كان لا شيء صفرا مهملا، وبها أصبح كل شيء، تذكره بتلك الأيام التي كان فيها يركع تحت أقدامها،يقبل تراب الأرض التي تدوسه لترضى عنه،

وأيضا ذلك التمرد الذي قام به “حصن الدين بن ثعلب” بصعيد مصر تحت شعار أنه أولى لأبناء مصر أن يحكموها بدلا من عبيد مرتزقة، بقايا الأيوبيين بالشام،

أقطاي ومماليكه البحرية، وتطلعه للحكم، وانتظاره الفرصة المناسبة ليطيح برأسه، يتحسس رقبته، ويبلع ريقه الجاف،

مطارق تدق رأسه لابد أن يرتب أوراقه جيدا، ويتخلص منهم جميعا، فإنه يعلم القانون ويحفظه “الحكم لمن غلب”.

هبت رياح عاصفة عظيمة مزقت أستار الكعبة، اختبأ الناس خوفا في بيوتهم

يدعون الله سرا وعلانية أن ينجيهم من عذابه، ويرحمهم برحمته الواسعة، ويرفع عنهم البلاء،

بعضهم يقسم أنه رأى شيخا في عمر الدهر، كفيفا ابيضت عيناه، وتغضن وجهه، ونشف جسده، يتكىء على عصًى غليظة،

ويمشي وسط العاصفة يرفع صوته منذرا ومحذرا: “عودوا إلى بارئكم فقد ضللتم الطريق، وغرتكم الأماني،

تلك الرياح من الآيات المنذرة، استيقظوا قبل أن تنهش الكلاب جسد الأمة، استيقظوا قبل أن تصبحوا أعجاز نخل خاوية.”

في حلب النيران تأكل كل شيء، النار تنين خرافي يلتهم الأخضر واليابس، الدور تشتعل وتتحول إلى رماد في لحظات،

أحدهم يحاول فى محاولة عبثية إنقاذ مكتبته الضخمة وعندما لا يجد أن هناك ثمة أمل يبتعد وهو يرى النار تلتهم خريطة مرسومة على جلد غزال لبغداد عاصمة الخلافة.

يسير “أيبك” متوترا يحدث نفسه بأن “أقطاي” أصبح قوة لا يستهان بها بعد أن نجح في كسر “نصر الدين بن ثعلب”،

وهزيمته شر هزيمة ثم انتصاره المبهر على جيش الأيوبيين في الصالحية، أصبح الكل يشير له بالبنان على أنه الفارس الذي لا يقهر،

ولن تمر بضعة أيام إلا ويجده فوق رأسه هو ومماليكه البحرية يبتسمون في سخرية، ويحزون رأسه ليزين أسوار القلعة.

هذا لن يحدث كم من مرة رأى عيني أقطاي وهي تنظر لكرسي العرش في تمنٍ،

وكلماته السامة المعسولة تزحف نحوه تخبره أن العرش والسلطنة لا تناسبه، وأنه ولو بعد حين سيكون سلطان مصر،

ويردد الصمت كلمات أقطاي التي لا تقال: لا تنسَ شعارنا “من غلب ركب”، لذلك قرر أيبك أن أقطاي لابد أن يختفي من المشهد؛

فدوره انتهى، فأرسل إلى أقرب فرسانه إلى قلبه، وحافظ سره وقسيمه في الرأي تلميذه النجيب “قطز”، فاتحه في الأمر، وبدأت تنفيذ خطة الاغتيال دعوة بريئة إلى أقطاي للتشاور في أمر من أمور الحكم،

وعند وصوله إلى قلعة الجبل سيقوم الكمين الذي أعده قطز بالمهمة؛ خمسة فرسان أشداء يقودهم قطز سينقضون عليه ويقتلونه.

تحقق المراد وتخضبت أعمدة القصر بدم أقطاي، وطويت صفحة فارس قتل غيلة،

أما مماليكه البحرية عندما علموا بأنه داخل القلعة ولم يعد بعد إلى قصره، أحاطوا بقلعة الجبل يشهرون سيوفهم وينادون بأعلى صوتهم على أميرهم،

ولا يجاوبهم إلا صدى أصواتهم، وطائر يردد ” الملك لك لك”، وبعد وقت قصير ألقى لهم رأس أميرهم أقطاي، يحمل بيبرس رأس أميره وينظر إلى عينيه الخالية من بريق الحياة،

الغضب يسيطر عليه وهو لا يصدق أن تلك الرأس هي كل ما تبقى من قائده وأستاذه، يقسم بأنه سينتقم عندما يأتي وقت الثأر،

يهرب بيبرس ومن معه من المماليك البحرية إلى الشام ويختفون بعض الوقت عن المشهد.

يدخل الحارس على أيبك قائلا:

– القاضي “تاج الدين” بالباب يا مولاي.”

– دعه يدخل.

يدخل القاضي “تاج الدين” قائلا:

– أفضل السلام والتحية على السلطان المعظم، سيدي ومولاي “عز الدين أيبك”.

– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، تفضل يا شيخنا الجليل.

يتخذ القاضي مجلسه بجانب السلطان ويبدأ حديثه:

– أنا يا سيدي رسول من مولاتي “شجر الدر” إليك، إنها تريدك أن تعود إلى القلعة، وتبلغك شوقها وهي تلعن الشيطان الذي دخل بينكما وجعل تلك الجفوة تزداد.

– أنت تعلم يا تاج الدين أنها أرغمتني أن أطلق زوجتي وأم ولدي الوحيد “علي” وقد فعلت،

ولكن لا يرضيها أي شيء، ودائما ما تسمعني كلمات كطعن السيوف أنها فعلت وفعلت، إنها تتناسى أحيانا أنني زوجها، وتعاملني كأنني أجير فى بستان القصر.

– مولاي أنت أعلم مني بغيرة النساء، أنت شغفتها حبا وهي ترجوك أن تعود الليلة إلى بيتك ودارك وقلعتك.

– سأعود يا تاج الدين لعلها تعود إلى رشدها، وتعلم أننا زوجان ولسنا عدوين.

– سأبلغها يا مولاي، وأدعو الله أن يبعد عنكما أي شر، أو سحر، أو حسد.

ينصرف القاضي، ويبدأ أيبك بتجهيز نفسه للذهاب إلى قلعة الجبل معقل الحكم، وليقض الله أمرا كان مفعولا، وجدها تنتظره في أبهى الثياب وأرقها، ما أجملها!

وجهها كفلقة القمر، ورائحتها كرائحة التوت والخوخ وزهر الليمون، تقترب منه وتقبل يده فيمسك يدها ويقبلها،

ثم يلتقم شفتيها ويتذوق طعم الخمر وكأنها تعلمت السحر على يد هاروت وماروت، وجد نفسه يمتص العسل وهو يسيل من بين أصابعها يحتضنها بقوة، يشعرها بقوته،

فتذوب بين يديه طائعة بلا تمنع اشتعلت رغبته فحملها وتوجه للفراش؛ ليطفئ تلك الحمى التى ألمت به.

يجلس في حوض الاستحمام وأوراق الورد تتناثر حوله، رائحة المسك والعنبر تدوخه، تقترب شجر الدر من أذنه وتهمس:

– لا تنسَ أنني كنت يوما أحبك.

لا يفهم، يقتحم الحمام بضعة عبيد سود يحاول أن يغادر الحوض ولكنهم كانوا أسرع منه قيدوه.

يصرخ وهو يقاومهم قائلا:

– خيانة! لماذا يا شجر الدر؟ لماذا؟! إني أحبك.

تقترب شجر الدر منه وتقبل رأسه للمرة الأخيرة قائلة :

– لا تستهن أبدا بامرأة.

وجاء أحدهم بوسادة وضعها على وجه أيبك، وأخذ يضغط بكل قوة وأيبك يقاوم حتى هدأت حركته وعادت روحه إلى بارئها، وطويت صفحة أيبك فلله الأمر من قبل ومن بعد.

"<yoastmark

زر الذهاب إلى الأعلى