أدبي

ليتني حجر

وقت النشر : 2022/06/30 08:33:49 PM

ليتني حجر
بقلم: شيماء عبد المقصود

وفي غسق الليالي النَّابعة من محاق تكوينهِ لن أيأس من الإنتظار، وكذلك لا أهاب دجَى سمائه، فَلجمالِ طَلَّتهِ سِرٌّ مقْتَرِنٌ بحياتي، فذاك ما يجْبرني على تحَمّلِ أربابِ أطوارِه إلى حين ولادته من جديد.

وكأننا حميمَانِ، جمعَتنا نبتةٌ صغيرة، حتى أينعَتْ فصارت صداقةٌ بيننا منذ نعومةِ أظفاري، أو كروحٍ ساريةٌ في روحي، فقد كنت أُنقِّب عنه في سماءِ طفولتي كلَّ ليلةٍ، لا أُبالي السماء شاحبة أو صافية.. كنت أسْترق النَّظر إليهِ خِلْسةً من وراءِ أصدقائي أثناء اللَّعبِ، فأراني أتَسلَلّ إلى مخدعه لإيقاظِه لنلْهو سويًّا على أرضٍ لم يجرؤ أحدٌ أن يطأها سوانا، كان يَروقني حينَ أشرَع فى اللَّعبِ معه يبدو وجهه ضَحوك، ترْتَسم على الوجنَتَين ابتسامةٌ عريضة صافية كما بهائه.

وتحتَ ظِلالِ الأشجارِ كنت أترَقَّبه، ويَتَرقَّبني، ويتَعجل ظهوري، فيرسِل إليَّ خيوط ضياءٍ، تناديني فَأُلَبي النِّداء بطلَّةٍ في ذلك الوجه، هزَّتْني يومًا دمعةٌ تتَرقرَق بالعينين حينَها أدرَكْتُ أنَّ ما بيننا ليس مجردَ نشوة إعجابٍ؛ فلقد بلغ بنا الحدّ إلى تَعطُّشِ روح عند غياب روحٍ ترافقها؛ زادها الحنين.

في طفولتنا كنَّا لا نقنَط ولا نَمَلّ من المجازفة مراتٍ ومرات بمَحضِ إرادتنا وبراءةِ سجيتنا، كان يستهوينا جمال الفراشاتِ فنقطع وراءها الأمتار كي نحظى بها، ونحن نعلم جيدًا أننا لن نفوقَ قدرتها على التَّحليقِ وراءَ أجنحتِها الزَّاهية، ويشدُّنا صوت زقزقة العصافير على الأغصان عاليًا؛ فنُصِرّ على اصطيادِها بالحجارةِ، نكتشف بعدها أنها هَجرَت عشَّها؛ فلا نملّ من تجديدِ المحاولاتِ.
وما أجملَ الأزهار على أغصانها، تعانقها حرس الأشواكِ تفاجئنا بسيوفها؛ لحظةَ الانقضاضِ؛ لكننا لا نرتَدّ عن موقفِنا؛ لنجْهَرَ بالاقتطافِ.

وتَمر سنون العمْر، يَتَرسب بداخلنا شعورٌ غامضٌ لا يبْرَح مكانه؛ كأنَّ تلكَ الطفولة كانت بئرا فاضَ بالإصرارِ والتَّحمل، فمَرَّتْ عليهِ قافلة العمْرِ؛ سَقَتْ جميع ظمأنا، وبعد الرحيل نضَب البئر وترسبتْ الشوائب، تحْمل سؤالًا واحدًا:
إلي أين ذهبَ ذاكَ الإصرار؟ إلى أين ذهَبَ ذاكَ الإصرار؟!!

يقول محمود درويش: “ليتني حَجَرٌ _ قلْت_ يا ليتني حَجَرٌ ما ليصقلني الماء؛ أخضرٌ، أصفرٌ.. أُوضع في حجْرَةٍ مثلَ منْحوتةٍ أو تمارينَ فى النحت، أو مادَّة لانبثاق الضروريِّ؛ من عبث اللا ضروريّ، يا ليتني حَجَرٌ كي أحِنَّ إلى أيِّ شيء!!”.

 

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى