أدبي

جسد بلا روح

حصاد

وقت النشر : 2022/11/01 08:15:22 AM

جسد بلا روح

بقلم: ماجي صلاح

قمة البؤس أن تبكيك ذكرياتك في منزلٍ كنت فيه تبتسم!

هكذا فكر إسماعيل وهو يقف على شرفته في الطابق الثاني من منزله شاخصاً ببصره يراقب ألسنة اللهب المتراقصة وهي تلتهم أشجار الغابة بنهم. وفي الجهة الأخرى منازل تشتعل فتصبح أثراً بعد عين. والأسفلت يذوب فيتحول هلاما، والناس تخشى الخروج للشوارع بعد أن أصبحت قطعةً من الجحيم. والشمس ترسل شواظًا من نار فتمتص الأكسجين.

تمنيت أن تزحف تلك النيران لتلتهمني حيث أقف بهذا المكان الذي أسست كل ركن فيه مع زوجتي الراحلة. وقد كانت تعيش حلمي منذ التقينا؛ كنا زملاء بالجامعة. لحظة أبصرتها خطفت قلبي. سألتهم عنها قالوا إنها همسة طالبة الصف الأول. كانت صغيرة الجسم، سمراء، ناعمة. كأنها طيف أثيري حين تتحرك، وعزف ناي حين تتكلم.

تزوجتها بلا أي مشاكل. فزت بمنحةٍ إلى بلاد الضباب. سافرنا واشترينا بيتًا يحتاج إلى ترميم، رممنا كل ركن سويا في عامنا الأول، عشت معها عمرًا بأكمله حتى انغمست في حياتي الخاصة؛ انبهرت بالحضارة والتقدم. وكثيراً ما كنت أقارن بين تقدمهم وانغماسنا في الخرافات.

أما زوجتي لم تنبهر بهم، كانت تقول أنهم يصنعون علمًا ولكن لا يبنون شعوبًا ولا يعلمون أخلاقًا.

كنت أسألها:

-كيف لا يبنون شعوبًا وهم يمتلكون كل تلك المعامل والمصانع؟!

كانت تدمدم:

-عدد الجامعات كثير. وكذلك الجوامع والكنائس والمكتبات. ولكن اسأل الشباب ماذا يعرف عن دينه؟ عن الأخلاق وأصول التعامل؟

هذه مشكلتنا نحن البشر كلما تقدمنا علمياً تراجعنا أخلاقياً. أتعرف لماذا؟

كنت أهز رأسي وأنتظر أن تتحفني بأحد أفكارها الخيالية.

-حبيبي، إن تراكم العلم على مر العصور لم يكن من صنع هذا الجيل وحده. ولكنه تراكم من عمل لعشرات من السنوات. وفي المقابل تخلى الإنسان بالتدريج عن الميراث الثقافي. وأصبحت حياته مادية بحتة لذلك أتمنى أن ننقل تراثنا لأبنائنا.

لم أحاول يوماً أن أثبط خطأها فهي شخصية حالمة. كنت أسألها:

-هل تتمني أن نعود للحرب بالسيوف وركوب الخيل والجمال؟

-لا يا زوجي الحبيب. فقط أتمنى أن نهتم بروح الإنسان بجانب عقله.

كنت أضحك وأقول:

– أنت همسة حالمة جميلة تعيش في الماضي.

كانت تجيب:

-إن قرية آمنة بلا سلاح خير من كل هذا.

كنت أمازحها قائلاً:

– حين نعود سأشتري لك بيتًا في الريف لتربي الدجاج والحمام.

وكانت تقول:

– إذاً عدني بهذا وسأكون أسعد امرأة.

أنجبنا آدم. والعام التالي كان لدينا سارة. وأنهيت الماجيستر بعدها بفترة. أذكر أنها قالت مبتهجة:

– أخيراً سنعود! الوحدة أرهقتني.

قلت:

– أنت يا عزيزتي من اعتزلتِ الناس.

قالت:

-دعنا من ذلك متى نستعد للعودة؟

لم أجب، قالت :

– هل هناك أمرٌ ما؟

طلبتُ منها أن أكمل الدكتوراة من نفس الجامعة. لم تجب ونهضت لتعد الطعام.

كيف لم أرَ تلك السحابة السوداء التي مرت على عينيها؟!. كيف لم أشاهد انطفائها؟!.

لم تعترض وافقت بعد صمت طويل أن نستمر، على أن نعود إلى مصر بعد ذلك فهي لم تحب يوماً تلك البلاد.

عشت أحلامي

عشت أحلامي الجامحة. انغمست في أوحال تلك المدينة البغيضة الرائعة. ومن نجاحٍ لنجاح أصبحت أستاذاً وأنا لم أكمل الخامسة والثلاثين!.

لم أعد أفكر في شيء سواي أنا فقط. حتى أني لا أذكر سنوات طفليّ الأولى. فلا أذكر أول كلمة نطقا بها. ولا أول خطوةٍ لهما في الحياة. ولا أول أيامهما في الدراسة. كل هذا وزوجتي وحيدة لم تتذمر يوماً، ولكني كنت أعمى.

سر مأساتي في أنانيتي! كيف لم أشعر بها وهي تذبل وتنزوي؟! لتتحول إلى شيءٍ يشبه الشبح بسبب مرضٍ ألم بها.

كانت النهاية المفجعة حين فشل الأطباء في علاجها. إنها في المرحلة الأخيرة، وقد عاشت هنا أحد عشر عامًا لم تشعر بالسعادة فيها.

ولكن في لحظاتها الأخيرة، طلبت أن أعود بالأولاد لمصر. قالت بضعفٍ:

– سيأتي يومٌ تفشل في السيطرة عليهما. خاصةً أنك مشغول بعملك. عدني بذلك فما زال هناك بقايا من قيمٍ وأخشى أن تندثر مع مرور الزمان.

وقد وعدتها..آه كم أكره نفسي! رحلت وتركتني وحيداً. حزنت نعم. بل وبكيت لأيام وأسابيع وكان كل شيء يتضاءل.

ذهب الحزن. وانغمست في حياتي مجدداً ونسيت وصيتها، فأبنائي في المدارس ناجحان ومتفوقان فلماذا أنتزعهما من حياةٍ تعودا عليها؟

كان هناك المربيات وكنت أمتلك المال فلم أهتم بمن يرعاهما، ولم أراقب أخلاقياتهما أو أصدقائهما.

كثيراً ماكنت أعود وأجد واحدة من تلك الحفلات الصاخبة وكان بيننا اتفاقًا إذا عدت للمنزل ننهي الصخب، وفي المقابل هما حُران بما يفعلانه في غيابي. تلاشى كل ما زرعته أمهما في السنوات الأولى.

آدم الجامعة

بعد بضعة أعوام، دخل آدم الجامعة.

كان شاباً هادئاً، لم يكن يفترق عن أختهِ سارة إلا فيما ندر. التحقت هي بنفس الجامعة في العام الذي يليه. كنت أراهما في الإجازات. لاحظت حين يعودان في تلك العطلات يكون معهما دائماً بعضًا من الصديقات. وأن آدم يجلس معهما طوال الوقت. لم أرهُ يوماً يصطحب أحداً من أصدقائه!

طريقة لبسة مستفزة بألوانها الأنثوية وحركاته الناعمة. نبهته أكثر من مرة أن هذه الملابس لا تليق بالرجال. وعرضت عليه أن أصطحبة لشراء ملابس. في كل مرة يتذرع بالموضة ويقول:

– لا فرق الآن.

واستمر الوضع على هذا الحال في كل زيارة، حتى كان الحوار الأخير منذ شهر. قال بمنتهى الهدوء:

– سأقوم بعمل عملية خلال شهر.

أفزعني كلامه وسألته عن السبب ولماذا لم يخبرني أنه مريض؟

قال بمنتهى البرود:

-إنها عملية تحول جنسي.

أصابني الذهول! كأنما ضربتني صاعقة وعقد لساني لبعض الوقت ثم سألته بغضب مكبوت:

– لماذا؟! هل هناك سبب قهري؟

قال:

– لا شيء من هذا، فقط أنا أرغب بذلك، إنها ميولي التي لا أستطيع كبتها.

اعترضت بشدة، بل انفجرت في وجهه، اتهمته بالجنون. طفا على السطح هذا الرجل الشرقي النائم من زمن. تفتت تلك القشرة المسماة بالحضارة! غضبت. وأعترف أن كل ما فكرت فيه هو من سيحمل اسمي إذا تحول ولدي إلى أنثى؟ كانت منتهى الأنانية. كم أبغض نفسي الآن!

لم يهتم بغضبي، هز كتفه ولم يقل شيئاً، وانتظر بهدوء حتى انتهيت من ثورتي. اعتبر اعتراضي تحصيل حاصل وخرج من الحجرة. وكانت سارة تجلس صامته فنظرت لها علها تقف في صفي.

– أيرضيكِ ألا يكون لك أخ وأن يتحول إلى فتاة؟

قالت:

– ما عيب الفتاة؟!

والأهم يا أبي أن هذا ليس من شأنك. فأنت لا تملك حق الاعتراض. منذ متى كنت تهتم بما نحن عليه؟ بعد وفاة أمي عشنا مع المربيات. عد إلى نسائك وعالمك ولا تتحدث عن العيب والحلال والحرام. فأنت تعيش عكس ما تقول.

لم أتحمل وقاحة ابنتي وصفعتها بعنف لكنها لم تبكِ أو تصرخ بل وقفت وقالت :

– لن أقدم بلاغاً في حقك اليوم ولكن إياك أن تكررها مرةً أخرى.

– من قال أنك ستكررها! سأرحل وأسكن مع صديقي.

خرجت سارة وخرج معها آدم. رحت أنصت لصوت أقدامهما وهما يغادران المنزل. حتى أني لم أحاول أن أمنعهما أو أنادي فقد كنت عالقاً بين الصدمةِ والذهول كيف وصلا لهذا الحال ولم أشعر!

أعلم أني لن أستطيع الاعتراض فقد تخطى كل منهما عامه الثامن عشر. راح قلبي يذوب شوقاً إلى صوت زوجتي أو لمسة من يدها الحانية على جبيني، تذكرت وعداً قطعته لها ثم تناسيته، لو أني أستطيع أن أعود بالزمان سبعة أعوامٍ لما بقيت هنا بعد الماجستير.

حصاد

الآن، مر شهرٌ كامل وأنا أحاول مع أبنائي ولكني فشلت. فقد رفضا كلاهما التواصل معي. نعم، فهذا حصاد ما زرعته يدي. أصبحتُ أبغض يدي لما زرعته وأبغض تلك الحضارة التي أنتجت العلم واستأصلت الدين. رفعت عينيَّ للسماء أراقب توهج الشمس القاتل ورحت أدعو بقوة شامتاً حاقداً:

-أيتها السماء افتحي أبوابك واقصفي أهل هذه البلاد بحجارةٍ من سجيل. ألقي عليهم صواعقًا لتحصدهم، وبرقًا ورعدًا ليقتل من على الأرض لعلها تتطهر.

-ربي لقد عادت( سدوم عموريا وعاد الأولى والثانية) ظهرت كل مدن الرذيلة وفتحوا أبوابهم لـ “لوسيفر” خاضعين طائعين. وأصبحت المجاهرة بالمعصية حرية. ومن قال إن الشيطان يتحكم فينا غبي فنحن من نسلم له أنفسنا طائعين. لم يظلمنا الله بل نحن ظلمنا أنفسنا لذلك نبوء بغضبه.

أكثر ما يثلج صدري ما أراه يحدث هنا هو حربٌ من الطبيعة ضد البشر. فلن يتمكنوا من تحديها. إنه انعكاسٌ لكلمة الله ولعنة صنعوها بأنفسهم. فهل اقتربت النهاية والطارق على الأبواب؟!

لا أعرف، ما أعرفه هو شعوري بأن جسدي الآن أضحى بلا روح!.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى