أدبيمقالات متنوعة

قراءة في مجموعة (ثلاث درجات لأسفل) للكاتبة آمال الشريف

وقت النشر : 2023/12/17 07:46:34 PM

قراءة في مجموعة (ثلاث درجات لأسفل) للكاتبة آمال الشريف

بقلم: الكاتب والناقد زكريا صبح

قراءة في مجموعة (ثلاث درجات لأسفل) للكاتبة آمال الشريف

ليست ثلاث درجات بل ثلاث دركات فى قاع الفساد المستشرى فى مجتمع البيروقراطية الذي استعذب الرشى والاحتيال، عَلِّي أن أبدأ هذه المداخلة بما اختارت الكاتبة أن تعنون بها مجموعتها البديعة حيث  تكون القصة صاحبة  عنوان المجموعة  كاشفة عن  هوية  القصص  بين دفتي الكتاب.

والقصة  ليست سوى محاولة للغوصِ فى أعماقِ المجتمع الذى لا يرحم  ضعف امرأة  وابنتها التى أوشكت على فقدِ وظيفتها التى تعمل بها فى بلدٍ عربي، فآثرت الكاتبة فضح ادعاء هذا المجتمع بكل تناقضاته؛ حيث لم تستطع الفتاة التي كانت تعمل بالفعل ولطالما استخرجت التصاريح اللازمة لذلك، ويأبى الموظفون إلَّا إعاقتها عندما سلكت المسالك القانونية  بينما نجحت عندما احتالت  وقدمت الرشى لأم شيماء التي قدمت لها تصريحًا ليس له أصلًا  فى الشهر العقاري.
قضية ربما تبدو تقليدية، ولكن الكاتب الملتزم بقضايا وطنه لا يستطيع غض الطرف عن مناقشة مثل هذه القضايا.

المجتمع إذن نصب عيني الكاتبة، ولذا تعددت القصص التي ناقشت القضايا المجتمعية المحضة بعيدًا عن الغوصِ فى نفوسِ  الأبطالِ كما فعلت فى قصصٍ أخرى، ومن القصص التي كان محورها المجتمع وقضاياه قصة “على المعاش” التي اختتمت بها الكاتبة مجموعتها، حيث نقلت لنا عبر هذه القصة معاناة الرجل إذا تقاعد من عمله أو أُحيلَ للمعاش؛ لقطة قد تبدو معتادة لنا نحن المصريين ونشاهدها فى المركبات العامة، لكن الكاتبة  حملت المشهد بشحنة نفسية عالية جعلتنا نتعامل مع قضية سن المعاش  وما ينتج عنها بتعاطفٍ شديدٍ على هؤلاء الذين لا يجدون سوى المواصلات لتمضية أوقاتهم.

وعندما تشرع الكاتبة فى معالجة أو رصد قضيةٍ ما، فإنها لا تعول على مستوى اللغة التي تعرض بها قصتها، وتكتفي بلغة سردية  محايدة لا تغرق فى المجازِ أو الاستعارةِ، ولكنها قد تبدو إلى لغة  المقال فى الصحف السيارة أقرب؛ كأنها تقول لن أبهر القارئ بلغة  مجازية حتى ينتبه إلى لُب القضية المطروحة، وهي فى ذلك لا تتورع عن استخدام اللهجة العامية في الحوار السردي الذى  يجرب على لسانِ أبطالها البسطاء.

وفى قصة “في بيتنا أنثى”؛ لم تفوت الكاتبة الفرصة لمناقشة قضية الختان تلك القضية التى لا نجد كاتبة إلا وأدلت بدلوها في بئرها، ولذا راحت تصور الكاتبة واقعة الختان فى صورة بشعة مصحوبة بالدماءِ واللزوجة؛ مما يصيب القارئ ربما بالغثيان، ولا شك أنَّ الكاتبة نجحت في إثارة اشمئزاز القارئ وتعاطفه مع كل امرأة تعرضت لانتزاع جزء من أعضائها الحميمية لتنفجر الدماء في وجوهنا جميعًا.

ولأن المجتمع يتكون غالبًا من ذكرٍ وأنثى؛ فإنَّ الكاتبة جعلت من  الجدل الدائر بين شقي المجتمع  محورًا آخر لقصصها، فإذا كانت فى قصة رجل على المعاش  قد جعلت بطل القصة رجلًا فى متنها، وظهرت المرأة في هامشها ظهورًا خافتًا فإنها؛ أي الكاتبة، قد  جعلت المرأة متنًا في جل قصصها  باعتبارها؛ أي المرأة، النصف الأكثر تأثيرًا في المجتمع، ولذا ليس غريبًا أن يكون معظم القصص لها بطلات وليس أبطالًا! هل هو انحياز من الكاتبة بحيث نستطيع وصف الكتابة هنا كما هو شائع أنها كتابة نسوية!؟ ربما كانت كذلك، ولذا ربما كان مناسبًا أن نتعرض لصورة المرأة لدى الكاتبة آمال الشريف في مجموعتها التي بين أيدينا.

1– ربما كانت  صورة المرأة المعتدة بنفسها وكرامتها هي أول ما يلفتنا فى هذه النصوص، فهي في قصة عاشقة تصور المرأة باعتبارها ذات كرامة، لا تقبل على نفسها أن تكون بين يدي رجل لا يتحمل المسئولية أمام المجتمع ويتهرب من الارتباط بمن يدعي محبتها مقتنصًا منها قُبلة أو حضنًا دون أدنى مسئولية، وشبيه بهذه القصة قصة “للسعادة وجوه أخرى”؛ حيث ترفض البطلة عرضًا من الحبيب بأن تبقى علاقتهما في السر بعيدًا عن الأعين، وأظن أننا سنلمس حال قراءتنا للمجموعة كاملة هذه الصفة فى كل البطلات التي تصدرن دور البطولة.

2– المرأة ليست خائنة بالفطرة، وأنها إذا وقعت في الخطيئة فإنها تكون مسلوبة الإرادة، وهذا ما رأيناه في قصة غرورالتى سقطت فيها البطلة  فى بئرِ الرذيلة وهي فى حالة سُكر، ومن ثم لم تكن تقصد إلىٰ الخيانة سبيلا.

وفى قصة “البيت الكبير” جاءت الخيانة رغمًا عن البطلة التي  وجدت نفسها فى بيتٍ يتنافس عليها من خلاله رجلان؛ الأب الذي يعاني مشكلات منتصف العمر والشاب الذي تدفعه شهوته المتأججة  نحوها.

وفى قصة “يخلق من الشبه أربعين”؛ فإننا تأكدنا من وقوع الكارثة  بين امرأةٍ  ومخدومها، ورأينا ابن السفاح يشبه كثيرًا ذلك الشاب الذى  كانت تعمل  المرأة خادمة لدى أسرته، إلَّا أنَّ الكاتبة لمَّحت إلى عجزٍ أو شبه العجز الذي أصابَ زوجها، ومن ثَمَّ وجدت المبرر  للوقوعِ في الرذيلة.

3– المرأة  باحثة عن الحب لا عن الشهوة، وهذا ما وجدناه فى قصة  “عاشقة” وقصة “أرجوحة”؛ حيث الفتاة  كانت على استعداد لأن تدفع حياتها ثمنًا لكلمة (بحبك).

4– المرأة لا تأمن للرجل حتى لو بذل من أجلها الغالي والرخيص، وهذا ما بدا واضحًا فى قصة “الغرفة”؛ وهى بالمناسبة واحدة من القصص التى كادت أن تخرج من كونها قصة إلى كونها نوفيلا لو  رغبت الكاتبة فى ذلك، ويكفي أن نعرف أنَّ عدد صفحات هذه القصة اقترب من الثلاثين، وقريب من ذلك أيضًا كانت قصة البيت الكبير التي اقتربت من خمسة عشر صفحة.

أقول أنَّ المرأة بدت في هذه المجموعة غير واثقة فى الرجل، وإلَّا لماذا  كادت أن تدفع سدن حياتها ثمنًا لأن تعرف ماذا يفعل  زوجها وحبيبها فى غيابها؟

ورغم  وضوح انحياز الكاتبة  لبنات جنسه؛ إلَّا أننا لا نستطيع إغفال حجم اللائمة التي لامت فيها الكاتبة  بطلاتها، فهي؛ أي المرأة، التى تسببت فى  تجرأ العامل عليها بعد أن دفعها الغرور  إلى التعالي على من أحبها، فكانت النتيجة أنَّ كسر أنفِ كبريائها  عامل بسيط لا يأبه الناس له.

والمرأة هي السبب فى هروب الرجل منها كما شاهدنا فى قصة “الغرفة” وكانت النتيجة أنَّها كادت أن تفقد حياتها بعد أن فقدت ثقتها بنفسها وبعد أن فقدت عقلها أيضًا.
والمرأة تتحمل  نتيجة   حملها سفاحًا، لأنها بررت لنفسها عحز زوجها أو ما يشبه العجز فى قصة “يخلق من الشبه أربعين”،
وكأن الكاتبة  أرادت أن تقول أنها من الموضوعية، بحيث لا تتورع  عن لومِ بناتِ جنسها وتحميلهن  نتيجة  سلوكهن.

أمَّا عن بناء  القصة لدى آمال الشريف؛ فقد جعلتني في حيرةٍ من أمري، فبعد أن قرأت القصة الأولى حسمت أمري، إنَّني أمام كاتبة  تعي تمامًا جوهر القصة القصيرة، وهذا ما اتضح جليًا في بناءِ قصتها الأولى؛ حيث جعلتها لحظة  في موقف في مدة زمنية محددة بين شخصيتين فقط وتركت النص مفتوحًا نستكمله معها بمخيلتنا ولم تفرض له نهاية محددة، وعلى هذا المنوال نسجت في كل القصص القصيرة فى هذا الكتاب.
ولكن  مصدر  الحيرة يرجع إلى بعض القصص التي تجاوزت صفحاتها الخمسة عشر صفحة أو يزيد، فاقتربت من روحِ النوفيلا. وأنا لا أقول ذلك لأنَّ عدد صفحات هذه القصص تجاوز ما درجنا عليه، ولكن لأنها أيضًا كتبت بعض القصص بروحِ الرواية؛ حيث الزمن الممتد والشخصيات المتعددة والأفكار المتداخلة، مما يجعل النص يغادر مكانه من مقعدِ القصة إلىٰ مقعد النوفيلا  والرواية؛   قصة الغرفة وقصة البيت الكبير نموذجان واضحان.

** الزمن فى قصص آمال الشريف:-

أصبحَ معروفًا لدى الكثير منا أنَّ للزمن أهمية كبيرة في القصة القصيرة، وهو واحدٌ من محددات كثيرة نحكم من خلاله على انتساب النص للقصة القصيرة من عدمه، وأنا أشهدُ أنَّ الكاتبة فطنت إلى ذلك فطنةً كبيرة، فجعلت جل القصص تدور أحداثها في زمنٍ قصيرٍ ومحدد؛ وكانت من الذكاء في القصص التي طال زمنها ووقعت أحداثها في مساحة زمنية طويلة، أقولُ كانت من الذكاء  بحيث لم تستخدم التعبيرات الدالة على طول هذه المدة مثل  (ومر وقت طويل ، وبعد عدة سنوات)، ولكنها كانت تنتقل انتقالًا سلسًا وتتحرك مع القصة كأنها تحدث فى لحظة واحدة مثل قصة “أرجوحة”، قصة “البيت الكبير” و”في بيتنا أنثى” وغيرها من القصص، غير أنَّ قصة الغرفة كشفت لنا عن النفس الروائى التي تتمتع به الكاتبة ليس فقط لأنَّ عدد صفحات هذه القصة اقترب من الثلاثين ولكن لأنها صنعت عالمًا روائيًا بامتياز تعددت فيه الأماكن والأشخاص وامتد فيه الزمن، وكشفت الكاتبة فى هذا النص عن إجادتها صنع حبكة درامية رائعة جعلتنا فى حالةِ شوقٍ لمعرفة النهاية، حتى نسيت أنَّني أمام قصة قصيرة، كما كشفت هذه القصة عن خيال الكاتبة الجامح الذي تركت له العنان كي يصنع عالمًا خياليًا رائعًا جعلنا نتغاضى عن انتقال النص من  صنفٍ أدبي إلى آخر.

** من المرات القليلة  التى  يخلو فيها عمل أو يكاد من الهنات اللغوية، فتحية للمدقق اللغوي الذي عكف على  هذا العمل.

** لم يزعجني شئ قدر ما أزعجني التمهيد المبالغ فيه للوصولِ إلى اللحظةِ القصصية التي تعالجها القصة، وربما اختلطت القضايا  بسبب  هذا التمهيد فوجدنا أنفسنا مشتتين  في القضيةِ الأساسية التي هدفت إليها الكاتبة؛ وقصة “حادث على الطريق  السريع” خير مثال.

زر الذهاب إلى الأعلى