أدبيمقالات متنوعة

انتصار العفة الشهيدة!

قراءة لنص: «سجدة» للشاعر محمود حسن!

وقت النشر : 2024/08/31 10:31:38 PM

انتصار العفة الشهيدة!
قراءة لنص: «سجدة» للشاعر محمود حسن!

بقلم: الشاعر البيومي محمد عوض

من نصائح ساداتنا كبار العارفين بالله بشأن آداب الطريق إلى الله، وأسرار السلوك إليه، قولهم: اتبع الخاطر الأول! وهي نصيحة غالية جدًا، وهم يريدون بها ألا تتردد في اتخاذ قرارك الذي انولد في روحك للتو! إذ هو نفثة قدسية تأتيك من لدن الحق! يوشك أن يكون التردد في الاستجابة السريعة إليها نوعًا من خيانةٍ! وضربًا من نكوص عقيم لا يليق بطائر إلى الله على أجنحة الشوق والعرفان والترقب!

ولأني مؤمن جدًا بفاعلية هذه النصيحة العرفانية! أراني الآن مسارعًا في الاستجابة لهذه الدوامة الروحية الموارة التي أوقعني فيها نص “سجدة” لشاعرنا الكبير محمود حسن! هذا النص الذي فتَّحت عيني عليه هذه الظهيرة، وما أن فعلت حتى داهمتني تلك العاصفة التي أعرفها من نفسي حين أكون على موعد مفاجئ مع فرح كبير! أو حزن بليغٍ كامد!

سأتبع إذًا الخاطر الأول الذي يأمرني الآن بالكتابة عن تلك الدوامة من الفرح العرفاني الأسيان! أو الأسى الروحي الراقص على إيقاع حبكة الدراما القدرية الغالبة أبدًا ..!

كيف سأعبر كسلي الشهير في هذه المغامرة؟! الله وحده أعلم كيف سأعبر تلك الحواجز الفولاذية الراسخة..!
سأعبر إذًا ..! ولا بد!

يكاد النص يتوعدني بعقاب وبيل إن لم أفعل! ولست أطيق نكال النص الأليم! لست أصبر على نيرانه اللافحة روحي إن لم أنصع لصيحته المدوية: قم الآن، فاصدع بما تؤمر!

” يا من كانت
عند حدود الغيب سحابةْ
تخبز كل صباح
لملائكة الله رغيفًا
من نور أزليّْ” !

أي مطلع هذا؟ أي حلاوةٍ موؤودةٍ؟ أي اتساع عين تحتقب كل الغيب وكل النور وكل الأمومة السماوية الرؤوم؟!

يمتلئ المطلع حد انفجار القِربة السماوية بنغمة الابتهال الشجية الأسيانة، ” يا من ..” ! بم يذكرك هذا النشيد؟ أليست تمور روحك الآن بآلاف الابتهالات والتواشيح الدينية التي تعتمد هذه الأسلوبية الضارعة المتبتلة الحزينة الممتلئة بكل الرجاء وكل الخوف معا؟!

يا من يراني ولا أراه!
يا من بذكرك يا رباه أبتهج!
يا من عليه لكشف الضر أعتمد!
آلاف من الابتهالات والصلوات الروحية الخاشعة تعتمد هذه الأسلوبية الشهيرة ..!

نحن إذًا في حضرة ابتهال خاشع منيب، أو داخلون عليه بوقار شديد غالبٍ ..ثم تأتي الطعنة الفاجعة: ” كانتْ ..” ” يا من كانتْ..” أوه! كانت! نحن الآن مع الذكرى! مع المنفى! مع وجع الخروج من الجنة! مع السقوط إلى حيث لا دثار، لا طعام، لا شراب، لا نور، لا أنس، لا نجوى! نحن مقبلون على ظلمة كثيفةٍ.. ظلمة التبدلات والتحولات.. ظلمة المتاهة الروحية في أرض الغياب والانفصال والتشظي الوجودي العارم الوجيب..!

كل نور بعد ” كانت” ظلمة!
كل طعام وشراب بعدها جوع وعطش!
كل دثار عري فادح مخجل مريب!
فلا ننخدع! الطريق مكارةٌ! والأشياء لا تنطق بحقيقتها المرايا المستوية!

كأنه يعرِّفها! أو ينعتها! أو ينقل لنا شيئا من مفاتن تلك الكائنة السحابية الممتلئة بحس الأمومة الفارع العذب الخصيب.. إنها تحمل مسؤولية مزدوجة! مسؤولية تجاه السماوات المأهولة بسكانها من ملائكة الله! ومسؤولية تجاه الأرض المأهولة هي الأخرى بعيال الله الفقراء! العشاق! الشعراء! باعة الأحلام الجوالين في كل ملكٍ وملكوتٍ!

يحدد الشاعر موقعها بدقة شعرية متناهية.. فهي على التخوم بالضبط.. هناك عند الأسلاك الوردية القائمة المنتصبة حدودًا بين الأرض والسماء..! إنها هناك لا تتنصل من مسؤوليتها كأم سماوية يجب عليها إطعام عيالها من الملائكة الجوعانة ..!

وما طعام الملائكة؟ إنه النور! وما شرابهم؟ إنه النور! وما لباسهم؟ إنه النور! هي تعرف ذلك.. وهي وحدها التي تعرف أن تخبز لملائكة الله تلك الأرغفة الصابحة التي لتوها تخرج من أفران المحبة الإنسانية الوارثة لبحار المحبة الإلهية التي تأبى إلَّا أن يتغذى بها العالم.. كل العالم!

وهي تخبز رغيفًا واحدًا لكل الملائكة! أتراه يكفي؟ أتشك في كفايته؟!
أنا شككت مثلك قبلك!
لكن! تأمل! إنه رغيف من نور أزلي! تأمل! من نور .. أولًا .. وأزلي .. ثانيًا!

أرأيت شمعة نقصت أنوارها حين أسرجت مليون شمعة خلفها؟!

هكذا الملائكة يا صاحبي!
وهكذا رغيف النور الأزلي..!

إنه فقط ليس يكفي الآن ..! بل يكفي أبدا ..!

الأزل كفاؤه الأبد! رغيف واحد من نور يطعم كل الملائكة! سجدة واحدة يقبلها الرب تفتح لك أبواب الجنة الثمانية! لا تعولوا على الكثرة يا أصدقاء! عولوا على الامتلاء الجواني! على الصدق المخلص! على التأويهة المنفردة في ليل النجوى المقدسة!

” ثم تعود بفاكهة
لا تعرفها
إلا سيدة المحراب
وخبز لا يعرفه إلاي إلي”

ألم أقل لكم إنها أم سماوية بالغة الحنو والحنان؟ ها هي تفرَغ من إطعام ملائكة الله في السماء، لتتفرغ لإطعام العشاق عيال الله الفقراء المساكين في الأرض!

يبدو أنها وهي عائدة من جنتها السماوية العالية اقتطفت من على الأشجار كثيرًا من الفاكهة.. تحملها الآن في سلالها النورانية.. وتعود بها إلى الأرض .. ولأن فرنها السماوي الكريم لا يكف عن الخبيز.. فخبزها الأكرم في جعبتها دائما..! هكذا كان فرن شيخي! لا يكف عن الخبيز.. لا يكف عن ضخ عطاياه إلى أفواه المريدين والعافين وعابري السبيل وطيور السماء.. ! كان ولم يزل!

فاكهة بطعم الجنة معها الآن! بطعم المعجزة! بطعم تلك الفرحة المريمية البتول التي تتفجر الآن في ضلوع تلك السيدة النور.. السيدة الصلاة.. السيدة الجنة.. سيدة المحراب.. سيدتنا مريم على نبينا وعليها وعلى ابنها المسيح السلام!

يا لها من هدية! ويا لها من حنانةٍ سماوية بساتينية خضراء!

الفاكهة تعرفها سيدة المحراب! أجل! فلها معها ذكريات محرابية بتول! والخبز يعرفه الشاعر.. فله هو أيضا معه ذكريات أبوية ياقوتية الحقل والحديقة والمنبر والسلم الصاعد أبداً في سحاب النور القديم الأزلي!

ما الفاكهة؟
ما المحراب؟
من تلك العارفة ومن ذلك العارف؟!

أوصيك يا أخي: لا تتورط بالإجابة اللفظية! لا تتورط بالكلمة! قلت لك: الطريق مكارة! والمرايا المستوية لا تعطي نتائج صحيحة في هذه السبيل المشتجرة!

” تحمل روحي
في كفيها
فتباركها
في كل سماء
مأهولة
تفتح صدري
تغسله
بحليب رباني”

هل كان غسيل صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حادثة شق صدره الشريف بالحليب؟ لا! لم يكن بالحليب! بماء زمزم كان! لمَ إذًا لمْ يغسل الشاعر صدره بذلك الماء المقدس؟ لم اختار الحليب الرباني المبارك؟!

التأويل عندي الآن.. أن الحليب اختيار موفق جدًا!.. لماذا؟ لأن الحليب طعام الأطفال! والشاعر لم يرد لنفسه أن يساوي رأسه برأس النبي! وصدره بصدر النبي! أراد أن يقول لفتاته الشعرية، لأمه السماوية: أنا طفلك الصغير! طعامي الآن حليب محبتك.. حليب حنانك.. حليب وصالك .. أطعمينيه! واغسلي صدري به! هو كفؤ جوعي لك! وصدري كرسيه وعرشه! من قديمٍ.. وإلى الأبد!

“كنت أسافر في عينيك ومن
كفيك إلى
حيث أبي
يلقي الدرس كعادته
والمنبر من خشب قدسي
والسلم ياقوت وزبرجد
والصوت كدعوة إبراهيم
مهيب ونقي!”

السفر! ما السفر؟ هذه الكلمة الفاتنة الراهجة المتوهجة أبدا.. هذا العذاب العذب! هذه العذوبة المعذَّبة والمعذِّبة!

السفر حكاية الدراما الإنسانية على الأرض! وفي السماء! العمر كله سفر! الفكرة سفر! الموسيقى سفر! التأويل سفر! “من إلى..” تقول أمي: من عتبة إلى عتبة يأتي الله بالفرج! وهكذا السفر انتقال من عتبة إلى عتبة.. ولا نهاية للعتبات.. ولا نهاية للأزمة.. لا نهاية للانتظار.. لا نهاية للفرج والفرح الأخير ..!

وكان لابد أن تكتمل الدائرة!
لهذا لا تعجب لخيال الشاعر الذي استدعى أباه في هذا المقطع!
ألم أقل لكم إنه طفل..! طفل كبير! طفل موحَش! كثير على روحه البريئة كل هذا الظلم والظلام في العالم!

تألقت فتاته باعتبارها أما يانعة الرحمة، فارعة الرضوان، خضراء اليد والروح والماء والحليب! وتألق هو باعتباره طفلًا غريبًا يعاني ما يعاني من صهد السقوط القديم من جنته العذراء الفاتنة.. أم وطفل! كان لا بد ليجتمع الشمل.. وتكتمل دائرة التكوين الأولى أن يظهر الأب! وظهر ..! ظهر فاتنًا هو الآخر! .. ظهر أمًّا في المعنى تُضافُ أمومته الإمامية إلى أمومة فتاته الجمالية العرفانية ليتألق معنى الكرم السماوي.. ليتجلى! ليتجسد نورا في هيكلين! ومعنى في كلمتين! ووجعا في نغمتين!

ها هو الأب الإمام يلقي الدرس كعادته! وهل إلقاء الدرس إلَّا التمثيل الذكوري لمعنى الأمومة المرضعة الحنون؟ أليست المعرفة حليب الروح! أليس النور غذاءها؟ أليست الرضاعة عادات الأمهات؟

ثم انظروا.. منبر الشيخ الإمام الأب من خشب قدسي! لماذا الخشب؟ لأنه ابن الطبيعة! ابن البراءة! ابن الحليب! كنَّا صغارًا نجرح شجرة الجميز لنرى حليبها يتساقط على أيدينا! وربما طعمناه فرحين مبتهجين راقصين! والخشب مقدس! شجرة الجميز كانت تعرف عند الفراعنة بالشجرة المقدسة .. لهذا صنعوا منها مراكب الشمس! وقد رأيتني أنام على كنب مصنوع من شجرة الجميز الليالي والسنين الطوال.. ورأيت مَن به وجع بظهره ينصحونه بالنوم على تلك الكنبة المقدسة عارية بغير فرش أو مرتبة!

منبر الشيخ من خشب مقدس! تعطي القداسة هنا عتقًا للمعنى. تعطي قِدَمًا! تعطي غورًا في الزمان البعيد القديم، تعطي عودة للوراء .. القداسة قديمة! ستمتد تلك العودة حتى نرى أبا الأنبياء ومن سمانا مسلمين سيدنا إبراهيم عليه السلام .. !

لا تفلتوا معنى الأبوة الإبراهيمية هنا في هذا المقطع الأبوي!
انظروا كيف صعَّد الشاعر المعنى..! كيف واصل السفر في عين فتاته السماوية حتى وصل إلى أبيه إبراهيم عليه السلام..! وحتى وصل إلى صوته ودعوته المباركة..! صوته المهيب والنقي، ودعوته النبية الرسولية المترعة بكل الضوء وكل الحدائق!

وتغيب السَّكرة وتأتي الفِكرة!
يأتي الوجع!
تأتي تضاريس الفاجعة! تأتي دراما التيه والأسئلة المجروحة النازفة واللايقين!

“أية شيطانة شعر
أغوتكِ فرحتِ .. وغبت..
جننتِ
تلبسك الكبرُ وأغواك اللاشيّْ
هل كانت سجدة آدم
من أتلف هذا
الخط الفارق
بين يقينك والغي؟
أم يا قبلة خمر الوهم
المتعتق من
أول سجدة
مسك عند سقوط التفاحة
جنيّْ”

الفرحة الإنسانية التي كتبت الأقدار السماوية عليها ألا تكتمل!
الغصة المفتولة بالروح البشري!
الفجيعة القادمة .. لابد .. وإن طال الفرح!
بطولة الشيطان في المسرحية!
عمادية الغواية في الرواية!

من أين برزت الكارثة؟ من الشيطان ووسوسته الخالدة؟ أم من كبر دفينٍ بالنفس الإنسانية، مدسوسٍ بين حناياها الصلصالية، كامنٍ كالذئب ينتظر وقتا ما لينبجس متفجرًا غير عابئ بتاريخ من القداسة القديمة، ولا ملتفت لندم ماحق سيمر بعجلاته المدمدمة على رقبة الإنسان.. رقبة الحكاية الكبرى.. رقبة التراجيديا السماوية المفتونة والفاتنة!

مِن الشيطان أم من الكبر أم من سجدة الملائكة لآدم، تلك السجدة التي أوقدت النار في صدر الشيطان الحاسد؟! وما ذنب آدم إن سجدت الملائكة له؟! ما ذنبه أن علمه الله الأسماء كلها؟! أن اختاره الله للسر الأعظم بينه وبينه.. أن ائتمنه عليه .. ؟!

التفتت فتاة الشاعر إذا عن وجه حبيبها الكريم! وما كان عليها أن تفعل!

الالتفات خطيئة العشاق! على الدوام يجب أن تكون عيونهم مصوبة للجمال الأزلي المتجلي في عيون محبوباتهم! الالتفات جريمة لا أدري إن كانت قابلة للغفران أم لا؟ لكن .. أدري أنها توجب التأديب! توجب العقاب! توجب الوجع! توجب الغيرة الإلهية التي لا يقوم لقائمها قائم!!

التفتت فتاة الشاعر.. ووقع الشاعر في المتاهة.. في النار.. في اللايقين.. في عاصفة الأسئلة السيالة التي لن تتوقف للأبد! في الحيرة الشاوية الكاوية! في ” هل، وألف كيف وكيف”!

” كنت غطاء
شتويا
أتدثر فيه يزملني
عند الرجفة والوحشةْ
حين فقدت يقيني
حين اختلفت أضلاعي
واستوحشت الآيةْ
أنهكني الخيط المفقود
اللامرئي
جيتِ إليّ وفيّْ
يمناك يقين نبيّْ
كيف أصدق بالله عليك
وكيف أفسر هذا الجبل
الجاثم فوق الصدر
الناتئ من رئتيّْ
كيف تبدل شايك
ماء النار على شفتي؟!
كيف تمدد وجهك في عيني
شبحا
يحمل حربة وحشيّْ
ويفتش عن كبدي
كي يطعمه
هند ابنة عتبة لكن..
ما كنتِ أسيرة هند يومًا
ما كان أبوك بغي”!

ماذ حدث؟
كيف حقت على روح الحكاية لعنة المسوخ الشريرة؟
كيف تحولت تلك السحابة رائعة الخفة والخصوبة والملائكية في مطلع النص إلى ذلك الجبل الجاسي الجاثم على صدر الشاعر فيهرسه هرسًا، ويفركه فركًا، ويفتته تفتيتا؟
كيف تحولت الفراشة إلى حربة وحشيٍّ؟
كيف تحولت الأم البتولية إلى هند بنت عتبة، آكلة كبد أسد الله ورسوله، سيد الشهداء حمزة الخير والمروءة والنخوة والشجاعة والبأس السماوي الشديد؟!

هل شرب الشاعر سم تلك المسوخ الشريرة؟
هل سرى السم في شرايينه فأحاله كائنًا شريرًا يفيض بالحنق والغضب والثأر والانتقام؟!

انظروا..!
واعجبوا ..!
وافرحوا ..!
نعم! افرحوا افرحوا!

لم يفقد الشاعر بكارته الطفولية الأزلية! لم تحوله المسوخ إلى مسخ من جنسها! اعتصم بكبرياء محبته، وعفة مروءته، وفتوة نبوة النور في عيونه.. !

يعلم الشاعر ذلك السر الأعظم، الذي يجعله لا يحنق على حربة وحشي الوحشية، لأنه يدرك يقينا، ويرى عميقًا أن تلك الحربة هي مفتاحه إلى الحياة الأبدية، إلى الخلود الناصع، إلى الماء الأول.. والنور الأول.. يعلم هذا.. ولذلك.. لن يقسو في العتاب على فتاته، .. ستكون القسوة على ذاته هو بالمقام الأول.. كأنه يفتدي بذاته ذات فتاته السماوية.. سيستسلم لحيرته الضاربة في جذور وجوده.. سيتعذب كثيرًا.. ويتألم طويلا.. !

ثم انظروا يا إخوتي إلى تلك الوداعة التي ينفتح لها ملكوت السماوات.. إنه ما زال يدافع عن فتاته السحابية .. ما زال-وحربتها الوحشية مغروزة في خصره الطيب- يطلب لها العذر ويلتمس لها التبرير .. ما زال يقاوم شرانية المسوخ فلا يرى فيها إلَّا صورتها القديمة؛ تلك السحابة الأم التي تطعم الملائكة خبيزها الساخن الصابح ..! ما زال يحرضها على أن تعبر انتكاستها العارضة .. وعثرة خيولها الضابحة في معراجها العلوي، فيذكرها بحريتها القديمة حيث هي فراشة تتجول في ملكوت الله حيث شاءت..! يذكرها بأبيها الإبراهيمي النبي الرسول الأمَّةِ وحده ..! يذكرها بروحها وصميمها حيث هي:

” إني نصَّبتك أيقونة شعري
ورويَّه
صورا
وخيالات
رمزا لا يعرفه
إلا من يعرج في مكنون
الياقوت المتخفي
بين سطوي
والكلمات البينية
قولي لي
يا امرأة نورانية
كيف تعثر خيلك
في المعراج العلويّْ؟
كيف تشابه في عينيك
قيام الليل
وكأس
عاقره كل مساء
كائنك الليلي؟!

إنها الأيقونة! الشعر! الصور والخيالات! الرمز العرفاني.. رديف السر الأعظم التي لا يعيش العشاق إلا بصيانته وحفظه! فإن باحوا به كفروا! لا طريق أمامهم إلا العفة.. عفة الروح.. عفة الجسد.. عفة الأسماء .. لن يبوح الشاعر باسم من يحب! سيتمتع بالسر وحده! لن يجعله مشاعًا لكل عابر.. سيقاوم إغراء القصيدة.. تريد القصيدة ان يبوح بالاسم.. هو لن يفعل!

سيصون الامانة! ربما رش شيئًا من نور بين الكلمات .. ربما .. فقد قيل: لو سكت المحب هلك، ولو نطق العارف هلك! سيحاول الشاعر أن يمسك العصا من المنتصف.. سيسرب بين السطور بعض أنوار وياقوت من عقد المحبوبة.. هو يعلم أن العشاق كثيرون ..وأن الحكاية تروي وتغذي ..!
لن يصدع بالعبارة .. ولن يكتم الإشارة .. !
لن يصدع صونا للسر
ولن يكتم رحمة بالعشاق المساكين، إخوته المذبوحين على الدرب الطويل!

تنتهي القصيدة بمشهد ليلي فاجع، وقد كانت ابتدأت بمشهد صباحي سحابي رائع ..!
وهنا تكتمل دائرة الزمن، كما اكتملت من قبل دائرة التكوين والميلاد.. أمومةً مريميةً، وأبوة إبراهيميةً، وطفولةً شاعريةً منهكة من الوجود وألغازه بينهما!

هل لا حظتم معي أيها الأصدقاء أن القصيدة ابتدأت بحرف الياء، وانتهت بنفس الحرف؟!

ألم أقل لكم إن الدائرة اكتملت؟!

لا دائرة مكتملة من فرح خالص!
تكتمل دائرة الفرح الكبير بوجع كبير!
هذا سر كبير يا أصدقاء!
فاعرفوه، وعيشوا به، ولا تكفروا!

هل كان يمكن أن تكون القصيدة على بحر آخر غير الخبب؟!
هل كان يمكن ألا يتنهد الشاعر تنهداته المنهَكة؟
هل كان يمكن أن ينبض قلبه المذبوح إلا بهذه السرعة الخيولية الفاتنة؟!

القصيدة بها من الجمال ما فيها!
ومن خبرة القول الشعري النضيج ما فيها!
ومن خبز المسرات الروحية ما فيها!
ومن الوجع ما فيه!!..

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى