أمنية
بقلم: نشوة أحمد علي
منذ حوالي ثلاث سنوات..
تلقيتُ رسالةً على حسابي السابق من متابِعةٍ راقية، أغدقت على شخصي، وما أكتبُ بإطراء ألجم لساني..
نافحتُ الحرج، وشكرتُ لها طيب متابعتها، فأضافت أنها تقرأ لصغيرتها أمنيةكلماتي المتواضعة، وأخبرتني أنها لم تتعدَّ سنينها التسعة، فدفعني الفضول إلى سؤالها:
– وهل تستوعبها؟
فأجابت:
– بل وتناقشني في بعضها..
تمنيتُ لو حادثتُها، فاعتذرتْ بأنها خجولة الطبع، لكنها ستحاول أن تقنعها بأن تفعل..
وبعد أسابيع..
كانت ” أمنية” قد كسرت حاجز الخجل، وطلبت مكالمتي، كان حوارا عذبا، رقيقا، متدفقا على قِصَره..
ثم تعاقبت الرسائل المكتوبة والمسموعة فيما بعد، حتى تسنَّى لي معرفة بعض الأشياء، أهمها؛ أن عينيها البراقتين الساحرتين تلتمعان بغير بصر، وكأنهما لم يحتملا مزيدا من جاذبية وجمال.
بعد شهور..
أصيبت الأم الغالية بمرض عضال، كان سببا في مفارقتها ابنتها الوحيدة.
وانقطعت أخبار ” أمنية” إلا من رسائل معدودات على مر عام كامل، علمت من خلال آخرهن أنها ستغادر البلاد..
استسلمتُ لأمر القدر، واستودعتها الله، تلك البُنية التي ما نادتني مذ عرفتني إلا بــ أمي..
سحبتني الحياة؛ تسوقني أمواجها وتياراتها، وانغمستُ بين المشاغل والهموم.
أحاول استقطابي ممن أعرفهم، وأمنع نفسي عمَّن يودُّون أن أعرفهم؛ فَلَشدَّ ما يؤلمني الفراق!
وذاك الحساب، أصبحت بمرور الوقت لا أستخدمه إلا في حال الضرورة القصوى، وقد واتتني إحدى هذه الضرورات منذ شهرين تقريبا، واضطررتُ لتفقُّده، فوجدتُ صندوق الرسائل يعلن عن جهة اتصال خفق قلبي لمرآتها.
رسالة من حساب تلك الفقيدة؛ امتلأتُ فرحا قبل فَضِّها، آملةً في نبأ عن فتاتي الغائبة..
صدق حدسي؛ بالفعل كان نبأ عنها، تخبرني الرسالة بوفاتها..
قرأتها كاملة، ثم تركتُ لأناملي حرية اختيار الحروف المناسبة للرد، فاكتفت بــ:
– البقاء لله..
أغلقت هذا الحساب ساهمة، شاخصة، ثم أجبرتُني على استئناف العمل لإتمام الكتاب الذي بين يدي حينذاك، والذي كان حلم أحدكم، وبعد ساعات دون التفات لغيره كنت قد أنهيتُ مراجعته، وقد بات جاهزا لخطوة لاحقة..
سمحتُ لجفنيَّ المتخاصمين بالعناق، فأغمضتْ عيناي اللتان اعتصرهما الألم، وغادرت الدموع نافرةً من مخبئها معلنةً العصيان، يؤازرها الفؤاد بحرقةٍ، وتأوُّهٍ لم يستطع كتمانه؛ لم يعد لديه ثمة خلية لحزن، ولا خلجة لوجع، ولا خفقة لِفَقْد..
المنام
تذكرتُ يوم زارتني في المنام بعد انقطاع دام طويلا، بفستانها الوردي، وشعرها الكستنائي، وضحكتها اللطيفة، تناديني:
يا أمي، اتبعيني
وأنا أتبعها ثم أدفع أرجوحتها لتحلِّق عاليا..
رأيتها على الحالة التي كانت قد قصَّتها عليَّ خلال آخر مكالمة جمعتنا وأمها، كان مناما رأتْه، ثم رَوَتْه، حتى حان دوري لأراه..
انتبهت لهذي الذكرى، فعدتُ فورا إلى المحادثة لأسأل عن وقت الوفاة، وأدركتُ بعد حِسْبةٍ بسيطةٍ أنها كانت قد زارتني مباشرةً بعد مفارقتها الحياة..