أدبي

أحببت ممثلة

وقت النشر : 2022/01/19 05:21:42 PM

أحببت ممثلة

قصة قصيرة

بقلم: إبراهيم بن عمر

٤:٣٠م- ٢٠٠٧/٨/٢١ (محافظة حلب)

أسقط من الطابق العاشر للمبنى كأبطال المظلات، ولكن بدون مظلة، أصرخ بكل قوتي والصوت يأبى أن يخرج، أحاول تحريك يدي لطلب النجدة، ولكن دون جدوى؛ فضغط الهواء حال دون حركتي، توقف إحساسي بالزمان والمكان إلى أن صحوت على صوتِ ساعة الحياة المتصلة بجسدي، طنين أجهزة طبية ورائحة معقمات ودماء تجتاح المكان، فقدت إحساسي بالنصف الأيمن من جسدي وكأنه غير موجود.

 أحاول الصراخ، لكن الأنبوب المتصل بفمي حال دون خروج صوتي، يا إلهي! أي حالة صحوتُ عليها؟! ليتني لم أصحُ، وليت ذاك اليوم لم يأتِ.

وبينما أنا على تلك الحالة المأساوية فاجأني دخول رجل بالخمسين من العمر على وجهه ابتسامة منحوتة من الدموع، “الحمد لله على سلامتك” قال لي.

أي سلامة تتحدث عنا أيها الرجل؟! أما تراني نصف إنسان، لو أنني مت لكان خيرًا لي، ثم من أنت، وأين أنا؟!

قال: أولًا، أنا الطبيب وسام، ثانيًا، لا تعترض على قضاء الله، أنت سقطت على سورِ المبنى وكُسر ظهرك، كانت حالتك من أصعب الحالات في طب العظام وشبه ميؤوس منها وبفضل الله تمكنا من ترميم سبع فقرات في عمودك الفقري، ولكن بعد نجاح عملية الترميم أصبحت تعاني من شلل نصفي، سيتحسن وضعك بعد المعالجة الفيزيائية إن شاء الله، إن شفاءك معجزة من عند الله، فقد أمر والدك يا معتز بذبح مائة نعجة وتوزيعها على فقراء القرية نذرًا على أمل شفائك، وكان لا يخرج من المسجد، كل وقته يصلي ويدعو لك، اِحْمَد الله ولا تعترض على قضائه

٧:٠٠م- ٢٠٠٤/٣/٢

في قصر العمدة اجتمع كل سكان القرية لوداع ابن العمدة، فبعد حصوله على الشهادة الثانوية قرر العمدة إرساله إلى العاصمة لدراسة الطب،كان العمدة فخورًا جدًا بولده لأنه سيكون أول طبيب في القرية، عمّ الصمت صالة الاجتماع احترمًا لكلام العمدة

العمدة: أعدكم يا أهل قريتي الكرام فور تخرج ولدي من الجامعة سأتبرع بقطعة أرض، وبناء مشفى عليها لأجنبكم الذهاب إلى مركز المدينة كلما مرض أحدكم.

ضج المكان بصوت التصفيق والأدعية للعمدة على كرمه وإحساسه الدائم بمعانة أهل قريته.

انتهت حفلة الوداع بمأدبة كبيرة قدمها العمدة لأهل القرية.

سافر معتز في صباح اليوم التالي مكلَّلًا برضا والده ودعوات أهل القرية.

في الجامعة كان يشار إلى معتز بسبب تفوقه غيرَ العادي بدراسته، وحصل على إعجاب جميع أساتذته،

حتى أتى ذلك اليوم المشؤوم، أو كما يطلق عليه (ساعة الغفلة)

١٠ص –  ٢٠٠٥/٤/٥

كعادته دخل إلى المقهى وجلس على طاولته المميزة وطلب كوب شاي بالنعناع (أهلا دكتور معتز سأحضر لك كوب الشاي بالنعاع المفضل لديك)فكل المقهى يعرف الدكتور معتز صاحب الذهن المتقد والشخصية الجذابة، انتظر الشاي

(أهلا آنسة سارة، بكل تأكيد سأحضر قهوتك المعتادة)

لم يكونا يعلمان أنهما يجلسان مقابل بعضهما، كلاهما كان منشغلا بما يحب، فهو في جريدته، وهي في الموسيقى التي تسمتع إليها، التقت الأعين حين نظر كل منهما إلى الآخر، شعر كل منهما بشيء اخترق قلبه، شعور لا يشعر به إلا من عاش الحب الحقيقي، الصدق، الإخلاص، الوفاء، كل هذه المشاعر النابعة من القلب شعرا بها في هذه اللحظات البسيطة، لقاء مميز بكل ما فيه، شعرا بشيء لم يشعر به من كان موجودا في المكان، وحدهما من شعرا بهذا الشعور، دقات الحب الأولى، الخفقان المتواصل للقلب حين ترى شخصا تبتسم لرؤيته دون أن تشعر، حين تتذكره تشعر بسعادة لا تعلم مصدرها لم يجرؤ أي واحد منهما على الاقتراب والتحدث إلى الآخر رغم ما شعرا به، فكلاهما لم يكن يعلم ما هي ردة الفعل التي ستصدر منه، لكنه أخذ أحد المناديل الصغيرة على الطاولة وكتب عليها “إن كانت قهوتك دون سكر، فأرجوكِ ضعي عليها قليلا من رقتك لتمنحها بعض الحلاوة، أرجوك لاتعتبري هذا غزلا قويا، لكني أردت التعبير عما شعرت به حين رأيتك..معتز”

أخذ النادل المنديل وأخبرها أنه من السيد معتز، لم تقرأ ما كُتب عليه بل اكتفت بوضعه في حقيبتها وغادرت المكان، ندم معتز على هذا التصرف الصبياني وحاول أن يلحق بها ليعتذر عما بدر منه، لكنه لم يجدها خارج المقهى.

 في اليوم التالي دخل إلى المقهى وكله ندم على ما فعله البارحة، خُيل إليه أن كل من في المقهى يزدريه ويحتقره، وكأن عذاب الضمير الذي أحس به وأرَّقه ليلة البارحة لا يكفي، جلس واضعًا رأسه بين كفيه وطلب فنجان قهوة، وقبل وصول قهوته تفاجأ بجلوسها أمامه وكأنه في حلم

سارة: أسعدتني جدًا كلماتك

معتز: إذا لماذا غادرتِ دون أن تشربي قهوتك، وجلعتِ مني أضحوكة؟

سارة:آسفة، لقد ظننتها مثل المضايقات التي أتعرض لها، ظننتك كتبت رقم هاتفك وعبارة ساذجة، ولكن فور خروجي قرأتها وأسعدتني جدًا، عدتُ أدراجي لأبادلك نفس الشعور، لكني لم أجدك

معتز: لقد حاولت اللحاق بك لأعتذر، ولكن لم أجدك أيضًا

سارة: أرجو أن شعورك لم يتغير

معتز: ممسكًا يدها صادحًا بأعلى صوته: أعلنت حبي على مسامع عشاق هذا الزمان، أين أنتم يا عشاق هذا العالم لتشهدو ولادة حب جديد سيكبر بينكم ويصبح قويا بمساندتكم له، هيا يا سماء باركي، هيا أرض اشهدي.

لبَّت السماء رغبتهما لتنزل قطرات المطر، وتعلن ولادة هذا الحب الجديد وتنشر الأرض أجمل روائح الزهور مباركة لهما، ما أروع الحب في بدايته!!

وعلى أنغام موسيقى بيتهوفن انتهى هذا اليوم،

في اليوم التالي، وعلى الطاولة ذاتها، التقى العشاق ونظرتهما تروي للحاضرين لذة الحب، كمن صحا من سُكْرِه سألها معتز: ماذا تدرسين؟

سارة: تمثيل في معهد الفنون المسرحية،عندما أتخرج سأصبح نجمة التلفاز الأولى

معتز: ممثلة؟!!!

سارة: أجل، وما العيب في ذلك؟! إنها مهنة العصر، ولا تحتاج إلى سنين طويلة من الدراسة، وتدر أرباحًا طائلة

أعجب معتز بكلامها وسأل: أيمكنني أن أحضر معك لأشاهد مراحل صناعة الأبطال الذين أعشق أداءهم.

سارة: حقًا تريد رؤية أداء الممثلين، أم لتختلس النظر إلى بعض الحسناوات من الممثلات الجدد؟!

معتز: وهل هناك امرأة بحسنك؟! أنت الشمس والباقيات نجوم يستمدن جمالهن منك.

ذهب معتز إلى المعهد العالي للفنون المسرحية، وحضر إحدى البروڤات التدريبية ، وازداد إعجابه بهذه المهنة،

وبمساعدة سارة وأصدقائها استطاع التسجيل بالمعهد تاركًا الطب وحلم والده خلف ظهره

٢٠٠٥/٨/٨

في العطلة الصيفية ذهب معتز إلى قريته ليخبر والده العمدة بقراره

معتز: والدي، لقد انسحبت من كلية الطب

العمدة: لماذا؟! وما سبب ذلك؟

معتز: لا أريد أن أكون طبيبًا جُلَّ وقتي بين الدماء

العمدة: فجأة أصبحت مرهف الإحساس، ألم يكن هذا حلمك، ماذا حدث؟

معتز: لقد تغير حلمي، أريد أن أصبح فنانًا

العمدة: فنان! ههههه يمكنك الرسم حتى لو كنت طبيبًا

معتز: وهل قلت لك إني سأصبح رسامًا

العمدة: ماذا تريد أن تكون؟

معتز: ممثل

العمدة بدهشة: ممثل؟! قل لي إنك تمزح ولا تختبر صبري فأنت تعرف موقفي حيال هذه المهنة الرقيعة.

معتز: أبي، أنا لا أمزح، أحببت هذه المهنة وسأصبح نجمًا مشهورًا، وأزيدك من الشعر بيتا، لقد أحببت فتاة تدرس ذات المهنة وسأتزوجها

العمدة: بُني، أرجوك، لا تجلب لي العار أن تصبح ممثلًا فتلك مصيبة، ولكن تتزوج بممثلة، فالمصيبة أعظم، بني، لقد علقت آمالي عليك، وأهل القرية ينتظرون تخرجك وكل يوم يسألني أحدهم عن حالك وحال دراستك، بم سأجيبهم بعد اليوم؟! أأقول لهم إن العاصمة حولت ابني إلى ديوث يرى زوجته بأحضان الرجال على الشاشات ويشعر بالفخر، عُد إلى رشدك يا ولدي فهذه المهنة ليست لك ولا تليق بنسبك.

معتز: أبي، هذه حياتي ولن أعيشها على طريقتك، وأنت تتحدث بكلامٍ رجعيّ، فنحن بزمان الفن والتمثيل، حيث أن الأبواب المغلقة بوجه الأطباء تُفتح على مصراعيها أمام الممثلين

العمدة: بل هو زمن الانحطاط، بُني، إما أن تُعرض عن هذا، أو تنسى أن لك أبًا، ليتني مِتُ قبل مقالتك هذه

معتز: لن أعدل عن قراري هذا أبدًا، ومع الزمن ستغير رأيك، أنا ذاهب الآن.

شاع في القرية خبر ابن العمدة، وصار مثلًا للتندر، ومثالًا يُضرب به كلما فكر أحد الأبناء في الذهاب إلى العاصمة (أتريد أن تعود ممثلًا كابن العمدة؟!)

لم يخرج العمدة من قصره بعد ذلك اليوم لكي لا يقابل تلك الوجوه الشامتة.

وتمضي الأيام وينهي معتز دراسة التمثل ويشارك بأحد الأفلام ليذكِّر أهل قريته به قبل أن ينسوه

٢٠٠٧/٨/٢٠

بعد سهرة بأحد أفخم الفنادق بالعاصمة عاد معتز وسارة بعد أن وقَّعا عقد بطولة مشترك بأحد الأفلام

معتز: سأكلم الدوبلير ليقوم بمشهد المخاطرة

سارة: ولماذا لا تقم به بنفسك

معتز: إنها مخاطرة كبيرة، حيث أني سأقفز من الطابق العاشر

سارة: لا يصعب عليك شيء، وإن فعلتها بنفسك سيصبح المشهد أكثر من رائع ولن تكون بمفردك، سيجهزونك بكل احتياطات السلامة

معتز: أهذا رأيك؟!

سارة: أجل، فأنت بطلي ولن أرضى أن يقوم دوبلير بأهم مشهد بمسيرتك

معتز : لأجل عينك سأفعل

٢٠٠٧/٨/١٥

ما أسهل شراء قلوب الممثلات بالمال!

بسبب الشهرة الواسعة التي حققتها سارة بمدة قصيرة كثر حولها المعجبون بجسدها لا في أدائها، وكان أحد أولئك الذئاب البشيرية “حاتم بيك” مالك أكبر شركة إنتاج في البلاد، أرسل دعوة عشاء عمل إلى سارة فقط متجاهلًا زوجها.

لبَّت سارة دعوة هذا الرجل؛ فهو من الأشخاص الذين لا يرد لهم طلب في تلك المهنة؛ لأنه عراب شركات الإنتاج وإذا أعلن غضبه على أحد الممثلين فإنه لن يحصل على أي دور حتى ولو كان دورًا صامتًا

حاتم: أتساءل عن مصدر هذا النور الذي أضاء المطعم فكان وجودك

سارة: أخجلتني أستاذ حاتم

حاتم: لنسقط عن كاهلنا الألقاب، نادني حاتم

سارة: لماذا؟!

حاتم: أنا لم أدعُكِ للعمل فقط بل هناك شيء آخر أريد إخبارك به

سارة: وما هو؟!

حاتم: أنا أحبك، ما إن رأيتك أول مرة عشقت تفاصيلك وخفة روحك

سارة بغضب: ولكني امرأة متزوجة لا يصح أن تتكلم معي بهذه الطريقة

حاتم: أتسمين ذلك القروي البائس زوجًا، أم ذلك الكوخ المتداعي بيتًا؟! إنك تستحقين أفضل من هذه العيشة الضنكة، قسمًا لو تركتِ ذاك المعتوه سأجلعك ملكة على عرش الممثلات

سارة: كلامك هذا حرك المواجع لدي، فنحن منذ زمن لم نتناول وجبة بمثل هكذا مطعم، إن الفقر يسيطر على حياتنا بالرغم من أن والده غني جدًا ويمتلك قرية بأكملها، ولكنه قام بطرده لأنه اختار التمثيل مهنة له،

ولكنه يحبني حد الجنون، لقد حارب أباه وقريته لأجلي ولن يتخلى عني أبدًا

حاتم: ههههههههه، يحبك؟! وهل حبه يشتري لك عُقدًا ماسيًا كهذا؟! قالها وأخرج العقد من جيبه.

انبهرت سارة بمنظر العقد وقالت: لمن ستهديه؟!

حاتم: وهل يليق بأحد غيرك؟!

انتهى هذا اللقاء بدعوة من حاتم إلى قصره المطل على البحر.

وتتكرر اللقاءات بينهما والشيطان ثالثهما، حتى عقدا العزم على التخلص من معتز بجريمة أشبه بحادث

٣:٣٠- ٢٠٠٧/٨/٢١

اليوم سيتم أهم مشهد في مسيرة معتز المهنية

سارة: سأذهب لأطمئن على تجهيزات المشهد بنفسي.

معتز: لا داعي، فريق الإنتاج مكلف بذلك.

سارة: لن أطمئن إن لم أشاهد بعيني لأن حياتي زوجي وحبيبي وبطلي معلقة بتلك الحبال.

ذهبت سارة وأخذت الحبل الذي سيربط بجسد معتز وهو يقفز، وقصَّته بطريقة لا تُرى دون تمعن، ولكن الحبل سينقطع عند شده، وقام معتز بأداء المشهد، لكنه كان المشهد الأخير بحياته كما خطط حاتم وسارة لذلك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى