أدبي

التراكيب والجمل في التجربة الأدبية 3

وقت النشر : 2022/06/12 01:52:49 PM

التراكيب والجمل في التجربة الأدبية( ٣)

بقلم: مصطفى نصر

 

سئل عالم اللغة أبو عمرو بن العلاء عن

تعريف البلاغة، فقال: هي معرفة الفصل

من الوصل فكأنما البلاغة كلها ببيانها

ومعانيها وبديعها انحصرت عنده في

مبحث واحد من مباحث علم البلاغة، هو

مبحث الوصل والفصل، فما هو الفصل

والوصل؟ ولماذا حصروا البلاغة في

الفصل والوصل؟ كأنما ليس في البلاغة

بابا غيره؟

 

الوصل في اللغة هو: الربط من وصلت

الشيء بغيره وصلًا فاتصل به، كوصل

الحبل بالحبل، والفصل لغةً: أصله القطع،

من فصلته عن غيره فصلًا: نحيته، أو

قطعته فانفصل، ومنه فصل الخصومات

وهو الحكم بقطعها، وذلك فصل الخطاب،

وفصلت المرأة فطيمها فصلًا فطمته،

ومنه الفصيل لولد الناقة.

 

أما من حيث الاصطلاح فهو مبحث يبحث

في متى نعطف بين الجمل بالواو ومتى لا

نعطف، وهي مسألة ليست بالسهلة،

وتتطلب وجود المعرفة بعلم البلاغة،

والتمرس في تذوق الكلام، ويُعدّ موضوع

الوصل والفصل من المواضيع التي نالت

أهميةً كبيرةً لدى البلغاء، حيث جعلوه

حدًّا للبلاغة، بل وكثير منهم عرّفوا

البلاغة على أنّها معرفة الفصل والوصل

كما ذكرنا آنفاً.

 

ذات صلة

وكثير من دارسي البلاغة خصوا الوصل

والوصل بأداة العطف الواو دون غيرها

من حروف العطف المتعددة، وقالوا إن

الكلام هنا قاصر على العطف بالواو؛ لأن

العطف بغيرها لا يقع فيه اشتباه.

 

فالقرآن الكريم عندما عطف بالواو بين

“إنَ الأبرار لفي نعيم”و”إن الفجار لفي

جحيم” “الانفطار 13-14” لم يعطف

عبثًا، لكن لتوفر شرط الوصل، وهو

المناسبة بين الجملتين إذ إنهما في حالة

تضاد، كما يمكن أن تكون المناسبة

بالتوافق مثل : إنه يقرأ ويكتب وإنما

كانت المضادة في حكم الموافقة؛ لأن

الذهن يتصور أحد الضدين عند تصور

الآخر فالعلم يخطر على البال عند ذكر

الجهل، كما تخطر الكتابة عند ذكر

القراءة.

 

فلو قال “إن الأبرار لقي نعيم، إن الفجار

لفي جحيم” بدون الواو لاختلت الجملة

وشعرت أنها غير بليغة، وكذلك إذا وصلت

ما حقه الفصل مثل: محمد عالم وعلي

طويل لعدم وجود تناسب بين العلم

والطول لوجدت العبارة اختلت أيضا

وفقدت بلاغتها.

 

ومن الأخطاء التي كثيرًا ما تقع، ويخطئ

فيها الناس أن تقول: لا هداك الله، لا

رحمك الله، لا شفاك الله،

تسأله: هل قدم زيد؟ يقول: لا رحمك الله،

وهل شفي من المرض؟ يقول: لا شفاه

الله، وما أشبه ذلك.

فهنا يتعين العطف بالواو، وهو الوصل،

فتقول: لا، وشفاه الله، لا وهداك الله، لا

ورحمك الله، وهكذا.

ولو قلت لمن سألك: هل برئ زيد من

المرض؟ فقلت: لا شفاه الله، فماذا

سيفهم؟ سيفهم أنك تدعو عليه بعدم

الشفاء وسيقول: ما الذي بينك وبينه،

حتى تدعو عليه بعدم الشفاء؟!

 

كما لا يجوز أن نقول “خليل ذاهب والبعير

قادم” لعدم وجود جامع بين المسند

والمسند إليه، أحدهما عاقل والآخر غير

عاقل.

 

ويتضح لنا من كل ما تقدم أن العرب قد

وضعت شروطا للوصل وشروطا للفصل

يمكن للأديب أن يهتدي بها عند صياغة

نصه، سأذكرها بعد قليل لكني تسهيلا

على معشر الأدباء أقول باختصار: إذا أدى

الوصل بين مفردتين أو جملتين إلى معنى

غير المقصود، أو إلى المعنى المقصود

بصورة رديئة أو لا يقبلها العقل وجب

الفصل، وإذا كان الفصل سبباً في الإيهام

بغير المقصود أو في فقدان المنطقية أو

الرشاقة في الأسلوب وجب الوصل.

 

لكل من الوصل والفصل مواضع، فمواضع

الوصل ثلاثة حيث يجب الوصل بالواو

في الآتي:

 

الأول: إذا اتفقت الجملتان خبرًا أو إنشاءً،

وكان بينهما جهة جامعة؛ أي: مناسبة

تامة، ولم يكن مانع من العطف، نحو: ﴿

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي

جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13، 14]، وكلا

الجملتين خبرية

 

ونحو: ﴿ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا ﴾

[التوبة: 82]وكلا الجملتين إنشائية في

باب (الأمر) وقد تختلف الجملتان نهيا

وأمرًا مثل: “كلا لاتطعه واسجد واقترب”

(١٩ العلق)

 

الثاني: إذا أوهم ترك العطف خلاف

المقصود، كما إذا قلت: لا، وشفاه الله،

جوابًا لمن يسألك: هل برئ علي من

المرض؟ فلو فصلت وقلت لا شفاه الله،

فترك الواو يوهم الدعاء عليه، بينما

غرضك هو الدعاء له .

 

والثالث:إذا كان للجملة الأولى محل من

الإعراب، وقُصِدَ تشريك الجملة الثانية لها

في الإعراب حيث لا مانع، نحو: «عليٌّ

يقول ويفعل»

 

وللفصل خمسة مواضع ذكرها البلاغيون

هي:

الموضع الأول: كمال الاتصال وهو اتحاد

الجملتين اتحادًا تامًّا، وامتزاجًا معنويًّا،

بحيث تنزل الثانية من الأولى منزلة

نفسها:

(أ) بأن تكون الجملة الثانية بمنزلة البدل

من الجملة الأولى، نحو: وَاتَّقُوا الَّذِي

أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ

وَبَنِينَ.١٢

(ب) أو: بأن تكون الجملة الثانية بيانًا

لإبهام في الجملة الأولى، كقوله سبحانه:

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ

أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ فجملة «قال يا

آدم» بيان لما وسوس به الشيطان إليه.

(جـ) أو: بأن تكون الجملة الثانية مؤكدة

للجملة الأولى، بما يشبه أن يكون توكيدًا

لفظيًّا أو معنويًّا، كقوله عز وجل: فَمَهِّلِ

الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا وكقوله: “وَمِنَ

النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ

وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ

آمَنُوا “(البقرة فالمانع من العطف في هذا

الموضع اتحاد الجملتين اتحادًا تامًّا يمنع

عطف الشيء على نفسه «ويوجب

الفصل».

 

الموضع الثاني: «كمال الانقطاع» وهو

اختلاف الجملتين اختلافًا تامًّا.

(أ) بأن يختلفا خبرًا وإنشاءً، لفظًا ومعنًى،

أو معنًى فقط، نحو: «حضر الأمير حفظه

الله» ونحو: «تكلمْ إني مُصْغٍ إليك»

وكقول الشاعر:

وقال رائدهم أُرْسُوا نُزاوِلُها فحَتْفُ كلِّ

امرئٍ يَجْرِي بمقدار١٣

(ب) أو: بألا تكون بين الجملتين مناسبة

في المعنى ولا ارتباط، بل كل منهما

مستقل بنفسه، كقولك: عليٌّ كاتب –

الحمام طائر؛ فإنه لا مناسبة بين كتابة

علي وطيران الحمام. وكقوله:

إنما المرء بأصغريه كل امرئ رهن بما لديه

فالمانع من العطف في هذا الموضع «أمر

ذاتي» لا يمكن دفعه أصلًا وهو التباين

بين الجملتين؛ ولهذا وجب الفصل، وترك

العطف؛ لأن العطف يكون للربط، ولا ربط

بين جملتين في شدة التباعد وكمال

الانقطاع.

 

الموضع الثالث: شبه كمال الاتصال وهو

كون الجملة الثانية قوية الارتباط

بالأولى؛ لوقوعها جوابًا عن سؤال يُفهم

من الجملة الأولى، فتُفصل عنها كما

يُفصل الجواب عن السؤال، كقوله

سبحانه: “وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ

لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ”(يوسف٥٣)

ونحو قول الشاعر:

زعم العوازل أنني في غمرة

صدقواولكنَّ غمرتي لا تنجلي

كأنه سئل: أصدقوا في زعمهم أم كذبوا؟

فأجاب: صدقوا، ونحو:

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحد بين الحد واللعب

فكأنه استفهم وقال: لِمَ كان السيف

أصدق؟ فأجاب بقوله: في حدِّه … إلخ.

 

فالمانع من العطف في هذ الموضع وجود

الرابطة القوية بين الجملتين، فأشبهت

حالة اتحاد الجملتين؛ ولهذا «وجب أيضًا

الفصل».

الموضع الرابع: شبه كمال الانقطاع وهو

أن تُسبق جملة بجملتين يصح عطفها على

الأولى لوجود المناسبة، ولكن في عطفها

على الثانية فسادًا في المعنى، فيُترك

العطف بالمرة؛ دفعًا لتوهم أنه معطوف

على الثانية، نحو:

وتظن سلمى أنني أبغي بها

بدلًا أراها في الضلال تهيم

فجملة «أراها» يصح عطفها على جملة

تظن، لكن يمنع من هذا توهم العطف على

جملة أبغي بها فتكون الجملة الثالثة من

مظنونات سلمى، مع أنه غير المقصود؛

ولهذا امتنع العطف بتاتًا ووجب أيضًا

الفصل.

 

والمانع من العطف في هذا الموضع أمر

خارجي احتمالي يمكن دفعه بمعونة

قرينة، ومن هذا ومما سبق يُفهم الفرق

بين كل من كمال الانقطاع وشبه كمال

الانقطاع.

 

الموضع الخامس: التوسط بين الكمالين

مع قيام المانع وهو كون الجملتين

متناسبتين، وبينهما رابطة قوية، لكن يمنع

من العطف مانع، وهو عدم التشريك في

الحكم، كقوله تعالى: “وَإِذَا خَلَوْا إِلَى

شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ

مُسْتَهْزِءونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ”(البقرة ١٥،

١٤)

فجملة «يستهزئ بهم» لا يصح عطفها

على جملة «إنَّا معكم» لاقتضائه أنه من

مقول المنافقين، والحال أنه من مقوله

تعالى «دعاء عليهم» ولا على جملة

«قالوا»؛ لئلا يتوهم مشاركته له في

التقييد بالظرف، وأنَّ استهزاء الله بهم

مقيد بحال خلوهم إلى شياطينهم،

والواقع أن استهزاء الله بالمنافقين غير

مقيد بحال من الأحوال؛ ولهذا (وجب

أيضًا الفصل).

 

وبعد: هذه أبرز معالم الوصل والفصل بين

الجمل، وسنتناول في المقال القادم متى

نوجز في الكلام ومتى نطنب ومتى

نساوي بين اللفظ والمعنى.

 

 

 

 

 

 

التراكيب والجمل في التجربة الأدبية 3
التراكيب والجمل في التجربة الأدبية 3

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى