أدبي

التراكيب والجمل في التجربة الأدبية

وقت النشر : 2022/06/18 12:52:48 AM

التراكيب والجمل في التجربة الأدبية
بقلم: مصطفى نصر

 

التراكيب والجمل في التجربة الأدبية

تحدثنا في المقال السابق عن أهمية الفصل والوصل في صياغة التجربة الأدبية. وقلنا أن البلاغة العربية أولت هذا المبحث اهتماما كبيرا. لدرجة أنهم قالوا إن البلاغة (هي معرفة الفصل من الوصل). وقلنا إن الوصل بين الجمل بالواو أو تركها باب يحتاج إلى دربة. وقلنا في خلاصة الخلاصة بعيدا عن القواعد المعقدة التي وضعت في هذا الباب، إذا أدى الوصل بين الجملتين إلى معنى غير المعنى المقصود، أو إلى المعنى المقصود بصورة رديئة يجب العدول عنه للفصل. والعكس تماما، نعدل عن الفصل للوصل إذا كان الفصل سببا في الإيهام بغير المقصود، أو أداء المعنى المقصود بقلق.

وننتقل اليوم إلى شيء آخر حساس أيضا عند صوغ التجربة الأدبية ألا وهو: متى نطنب في الكلام. ومتى يكون الإطناب حسنا وليس رغيا لا داعي له. ومتى تكفي الإشارة والإيجاز. بحيث يكون الاختصار أولى. ومتى يستلزم الأمر العدول عن كل من الإطناب والإيجار للمساواة بحيث تكون الألفاظ على قدر المعاني دون إيجاز ولا إطناب. هذا ما سنعالجه في هذا المقال.

فالقرآن الكريم عندما يقول: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ) “٢٣٨ البقرة” قد يتساءل أحد الناس: أليست الصلاة الوسطى ضمن الصلوات؟! فلماذا زاد في العبارة (الإطناب) الصلاة الوسطى دون غيرها، وقد فهمت ضمنا بين الصلوات؟ فهل هذه العبارة زائدة لا قيمة لها؟
لكنا عندما نتأمل هذه العبارة نجد أنها وضعت خاصة (الصلاة الوسطى) بعد العام (الصلوات) فماذا أضافت للنص؟! أضافت أن هنالك أهمية للخاص (صلاة العصر على أكثر التفاسير) على سائر الصلوات الأخرى، فالله تعالى كأنما أراد أن يقول: حافظوا على الصلوات كلها -وخاصة- صلاة العصر، وهذا يلفتنا إلى وجود مزية ما لصلاة العصر التي خصصت بالفضل، لذا تم ذكر الخاص بعد العام للتنبيه لأهمية الخاص.

المساواة

أما المساواة، فهي الدرجة الوسطية بين الإيجاز والإطناب، وهو أداء الكلام بألفاظ على قدر المعنى، بحيث يكون اللفظ مساويًا لأصل ذلك المعنى، فهذه “المساواة” وهي الأصل الذي يكون أكثر الكلام على صورته، والدستور الذي يقاس عليه، كقوله تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) “٢٠ المزمل” ومنه قول الله تعالى: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) “٢١ الطور” وكقوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) “٤٤ الروم”وكقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.» (البخاري ومسلم) فالكلام في الآيات المذكورة والحديث على قدر المعنى لا يزيد عليه ولا ينقص، لذا سميت مساواة.

فالإيجار على ضربين؛ إيجاز قصر، وإيجاز حذف.
أما إيجاز القصر، فهو حمل المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة من غير حذف كقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) “199 الأعراف” أي خذ الصدقات مما زاد على حاجتهم، وأمُر بالمعروف أي بمكارم الأخلاق، وهي كلمة مختصرة تحمل معاني كثيرة، إذ أن كل خصال الخير اختصرت في كلمة واحدة، ولا تجادل الجاهلين.
ومنه قول الله تعالى (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) “١٤٣ فاطر”، أي أن المكر يعود على صاحبه.

وأما إيجاز الحذف، فيبدأ من حذف حرف واحد من الكلمة مثل قوله تعالى (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) “٢٠ مريم” حيث حذفت من “أكن” النون، ومنه حذف كلمة مثل قوله تعالى: (وَسْـَٔلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِى كُنَّا فِيهَا) “٢٠ يوسف” والمراد وأسأل “أهل” القرية، لأن القرية كمبانٍ وأسواق لا يمكن سؤالها، ومنه حذف جملة، مثل قوله تعالى: (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13الشمس) رسول الله صالح عليه السلام يعني ناقة الله -أي- احذروا نحر ناقة الله، والزموا سقياها يوما بعد يوم. وقد حذفت جملة من الكلام اختصارا، لأن المحذوف واضح ولا يحدث لبساً في الإفهام.

ومنها حذف عدة جمل في القصص القرآنية كقوله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) إلى (20) سورة يوسف”
حذفت هنا عدة جمل والمعنى: وحين ألقوه في الجب، وأصابه الهمّ والحزن، وتملكه الخوف، أوحينا إليه، حيث نلاحظ أن حذف جمل كثيرة لم يخل بالمعنى، لأن موضع الحذف يدل عليه السياق العام، وهذا تكنيك يمكن أن يستفيد منه كتاب القصة بأنواعها سواء أكانت قصة قصيرة (أقصوصة) أو قصة أو رواية.
وللحديث بقية.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى