أدبي

التراكيب والجمل في التجربة الأدبية

وقت النشر : 2022/06/24 08:35:49 PM

التراكيب والجمل في التجربة الأدبية

بقلم: مصطفى نصر

بقي لنا في إطار صياغة التراكيب والجمل في النص الأدبي الإشارة إلى موضعين دقيقين: الأول يتعلق بالتقديم والتأخير، ومتى يحسن ترتيب الجملة العربية بوضعها الطبيعي (فعل ثم فاعل ثم مفعول) أو (مبتدأ ثم خبر) ومتى يحسن أن نبطل هذا الترتيب، كتقديم المفعول على الفعل والفاعل في نحو قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5 الفاتحة) حيث قدم المفعول به (إيَّا) على الفعل والفاعل (نستعين) الفعل وفاعله الضمير المستتر فيه وتقديره (نحن) لغرض بلاغي دقيق هو التخصيص والتعيين. ولأن التركيز هنا ينصب في الإيمان بأن من يستحق العبادة والاستعانة به هو الله وحده، لذا قال ابن كثير: تقديم المعمول يفيد الحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه. فكأنه يقول: نعبدك، ولا نعبد غيرك، ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك.
وسنبدأ في هذا الجزء بالتقديم والتأخير بصورة مختصرة، ثم نختم المقال بأسلوب القصر.
فمن التقديم والتأخير:
تقديم الخبر على المبتدأ: فالوضع الطبيعي أن يكون المبتدأ أولًا، ثم يأتي الخبر فيكمل المعنى، لكن قد تقتضي بعض الظروف تقديم الخبر لأهميته. ولأنه الأولى بالتقديم للعناية به أكثر من المبتدأ، في نحو قوله تعالى: (أم على قلوب أقفالها) إذ تقدم الخبر شبه الجملة (على قلوب) على المبتدأ (أقفال) لأن العناية هنا ليست بالقفل، وإنما بالقفل عندما يحجب القلب بالذات عن التبصر، فتكون الطامة الكبرى وعمى البصيرة الذي هو أشدَُ ضراوة من عمى البصر.
ومنه قول الله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) “٧ الكافرون” حيث قدم الخبر (لكم) على المبتدأ (دينكم) لغرض التخصيص في اتصافكم بدينكم واتصافي بديني. ومن التقديم (فأوجس في نفسه خيفة موسى) “٦٧ طه” فهنا قدم الجار والمجرور (في نفسه) والمفعول به (خيفة) وأخَّر الفاعل (موسى) لغرضين بلاغيين؛ الأول الاختصاص، حيث خصص التوجس بالخوف، وله غرض آخر هو إقامة السجع لتتناسب الفواصل مع ما قبلها على الألف: (ألقى – تسعى – موسى- الأعلى).
وقد يكون التقديم “للتعجيل بالمسرة” مثل (البراءة حكم بها القاضي) وقد يكون لتعجيل المساءة مثل قوله تعالى (النار مثوى لهم).
أما القصر فهو: تخصيص أمر بآخر بطريقة خاصة. وهو من الأساليب التي يحتاجها كاتب النص لتقوية المعنى وتأكيده. فالجمل عموما تقوم بدور واحد، إما النفي أو الإثبات. لكن جملة القصر في قوة جملتين إحداهما للنفي، والثانية للإثبات. فأنت إذا قلت: (الإله الله) عندك جملة إثبات عادية، أما عندما تستخدم أسلوب النفي والاستثناء (لا إله إلا الله) فأنت هنا تثبت الألوهية لله وحده، ثم تنفيها في نفس الوقت عن كل من سواه، وبذلك تكون قد أتيت بجملة واحدة ذات قوة ثنائية تفيد النفي والإثبات معا، لتقوية المعنى وتوكيده.
وتقوية المعنى بأسلوب القصر يكون بأربعة طرق:
أولها النفي والاستثناء: وقد تقدم مع المثال السابق: (لا إله إلا الله). ويكون المقصور عليه في القصر بالنفي والاستثناء ما بعد أداة الاستثناء (الله) بينما المقصور هو ما بعد أداة النفي (إله). ولما كانت (صفة) الألوهية هنا مقدمة على (الموصوف) وهو الله، سمي القصر (قصر صفة على موصوف) وإذا تقدم (الموصوف) على الصفة سمي (قصر الموصوف على الصفة) مثل: (ما مصر إلا هبة النيل).
وثاني طرق القصر: القصر بـ(إنما) كما في قول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) “حديث صحيح ورد في البخاري ومسلم”. حيث قصر العمل الحق بالنية، واستخدم أداة القصر (إنما) لقصر الأعمال الجيدة “مقصور عليه”بركن أساسي هو النية (المقصور)، فأفاد بذلك الحصر، والتوكيد، وتقوية المعنى بجملة واحدة تقوم مقام جملتين، واحدة للنفي، والثانية للإثبات كما ذكرنا عدة مرات، وهو قصر موصوف على صفة، والمقصور عليه هو المؤخر.
ومن طرق القصر أيضًا: العطف بلا، وبل، ولكن: مثل:(الأرض ثابته لا متحركة)، و(ما الأرض مسطحة بل كروية)، و(ما السبورة حمراء، لكن سوداء)، والمقصور عليه ما قبل (لا) وما بعد (بل) و(لكن)..
وطريق القصر الرابع والأخير هو تقديم ما حقه التأخير مثل قوله تعالى: (ولله ملك السموات والأرض) “١٧ المائدة “. وهنا يكون المقصور عليه هو المقدم: (لله) ومثله: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) “٨٨ النساء”.
وخلاصة الأمر، فإنه عند صوغ الجمل والتراكيب في التجربة الأدبية شعرًا، أو نثرًا (قصة – مسرحية – مقالًا – أو خاطرة نثرية) يجوز لمنشيء النص الالتزام بالترتيب الطبيعي للجملة (فعل – فاعل – مفعولات) (مبتدأ – خبر) أو تقديم جزء على الآخر، إذا استدعى الأمر التنبيه للمقدم والتشويق للمؤخر، أو تقوية الحكم وتمكينه في ذهن السامع، أو لأي سبب بلاغي آخر. كما يجوز له استخدام جملة مفردة (إيجابًا أو سلبًا) كما يجوز له تقوية الجملة وجعلها في قوة جملتين باستخدام أسلوب القصر بطرقه المختلفة، حسب حال متلقي النص وطبيعة الحال.

زر الذهاب إلى الأعلى