أدبيمقالات متنوعة

“تلك المرآة هي أنا”الحلقة 20

وقت النشر : 2024/01/23 04:08:12 PM

“تلك المرآة هي أنا”الحلقة 20

بقلم: الكاتب الروائي حسن العربي

جلست ليلى تنظر إلى صفحة النيل ومياهه تتراقص أمامها على أنغام شرقية وأشواق وحنين لسنوات من العمر مضت وإلى رحلتها القادمة التي كلما طافت بخيالها ظهر الرضا على وجهها وكأنها على موعد مع الحب الحقيقي. 

طلبت من النادل وجبتها الشرقية المفضلة، فول اسكندراني وطعمية وبيض مدحرج، رغم أنها تعلم جيدًا أن أمعاءها لم تعد قادرة على استيعاب هذه الأصناف، لكنها الرغبة في العودة إلى الوراء قليلًا.

أما آمال فكانت قد بدأت تتحدث عن الحياة والنيل وسحره وتأثيره الغريب على كل من يمر به وكثير من الحكايات فى محاولة منها كي يمضي الوقت دون أن تشعر ليلى بألم، وكانت تحب أن تعيش ليلى حقًا آخر أيامها في سعادة دون أن ينقصها شئ، وفي هذا الإطار كانت تبذل مجهودًا كبيرًا.

اتكأت ليلى على مقعدها ونظرت إلى آمال وهي تبذل كل هذا المجهود لتسعدها ثم قالت:

عارفه يا آمال..أنا سعيدة جدًا اليوم. 

ربي يسعد أيامك ويحقق لك أحلامك خير ما بك؟! أراك وكأن هناك شيئًا تريدين قوله، أشعر بهذا منذ أن خرجنا من البيت، هل هناك ما يضايقك؟

أبدًا على العكس، أنا الحمد لله في خير ونعمة كبرى، لا أدري إن كنت أستطيع وصفها لك، والله يا آمال سبحان الله أنا ربنا كرمني كرمًا كبيرًا وكان عطاؤه لي أكثر مما يتخيله أي بشر.

توقفت ليلى قليلًا وكأنها تلملم شمل كلماتها المبعثرة فى كل مكان تبحث عنها لتنسيقها فى سرد مختصر وسريع تقدمه إلى آمال،كما كان في مخططها منذ أيام.

أنا فلاحة.

توقفت مرة أخرى وكأنها تأخذ أنفاسها لتسترجع أيامها التي كانت:

نعم أنا فلاحة من مواليد قرية صغيرة فى الفيوم حكايتي طويلة يا آمال، كان أبي موظفًا في الأوقاف وكان حافظًا للقرآن، وعنده عِلم شرعي يجود به ما استطاع على من حوله، كما كانت أمي حافظة للقرآن أيضًا، فى مشيخته أحبها وهو يسمع صوتها العذب وهي تجوِّدُ كلمات الرحمن فتقدم لها وخطفها من وسط شباب القرية، كما كان يحب أن يروي لي فى كل مرة كانت تأتي ذكراها بيننا، بل إنني استطيع أن أقول إن غياب أمي عوضه كثيرًا مضاعفة أبي رحمه الله حضوره في حياتي، وإكماله تربيتي بعد أن توفيت أمي رحمها الله. رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا.

عشت في أحضانها سنوات قليلة كانت تحفظني فيها القرآن ما استطاعت حتى داهمها هذا الابتلاء فى رحمها الذي اضطر الأطباء إلى استئصاله، وهكذا فقد أبي حلمه برزمة أطفال حوله وسرعان ما رحلت أمي عن حياتنا الدنيا.

رغم العُمق المأساوي فيما تروي ليلى إلا أن قسمات وجهها لم تكن تنم إلا عن هدوء وسكينة وراحة بال على أعلى مستوى، وكأنها إحدى ملائكة الأرض أو أنها عبرت آلاف السنين الضوئية أو جاءت إلينا من كوكب آخر أو نقول إنه الإيمان الحقيقي، نعم، ثم أخذت رشفة من كوب الشاي أمامها وعاودت النظر إلى النيل ثم إلى آمال ثم عادت إلى ماضيها تستلهم منه المستقبل المراد.

لم يتركني أبي للحظة بعض وفاة أمي، كرس حياته وجهده فى أن يعطيني تعليمًا جامعيًا وثقافة إسلامية، وكان يردد دائمًا: سوف أجعل منك أحسن إنسانة فى الدنيا إن شاء الله، ما عليك إلا أن تجتهدي كما كانت أمك رحمها الله، وقد كانت هي الأخرى  تتمنى أن تراك ناجحة. 

كنت أعطيه كل حياتي وحبي وتقدير، كنا معًا منظومة عشق موسيقية تعزف كل صباحٍ وكل مساءٍ، وأثر هذا على أبي فلم يتزوج بعد أمي رغم أن كل من حوله كانوا يحثونه ويدعونه إلى ذلك، وكان دائمًا يتحجج بي.

الحقيقة أنني أيضًا كنت ألوذ به وأتحجج به، فأنا الأخرى لم أتزوج فى السادسة عشرة مثل بنات القرية، وتفوقت فى دراستي حتى أتممت تعليمي وكان شاغلي الأكبر هو إرضاء الله ثم أبي وتعويضه عما فاته وإسعاده حتى آخر العمر، كما كنت أحب أن أقول:

أبي أبي أبي حتى الثمالة ثم أضحك وأقهقه وأجري كطفلةٍ لأرتمي فى مغارات أحضانه الحنونة.

مرت بنا السنون وكانت أكثر هواياتي هي القراءة، وكنت أجد نفسي في الكتابة، وكنت من عشاق القلم، فكتبت بعض المذكرات وبعض ما أسميته أشعارًا ودواوين، ثم انتقلت إلى القصص القصيرة المستوحاة من الطابع القروي الجميل، والذي مع الأسف، بدأ في الانحسار منذ زمن بعيد وذهب، ويبدو أنه لن يعود ثانية.

فى هذه الإطلالة إلى الوراء كنت تشعر أن ليلي تتمتع بسرد هذه الأحداث، أما آمال فكانت تبدو مستبشرة خيرًا بما تراه من نور ينبثق من وجه صديقتها وهي تروي تلك الذكريات.

كان أبي يقرأ بل أستطيع بكل حب أن أقول إنه قد كان القارئ الوحيد لي إلى أن جاء هذا اليوم الذي فاجأني فيه أبي بأن أعطاني عنوانًا لناشر فى القاهرة يرغب فى أن أذهب إليه بقصتي.

ورغم أن الفرحة لم تسعني إلا أنني تعجبت من تصرف أبي ونحن بالكاد نستطيع أن نمضي شهرنا بما قسمه الله لنا!

ورأى فى عيني الدهشة وفاجأني المفاجأة الثانية حينما سألني إن كنت أتذكر روايتي التي كنت قد أعطيتها له منذ شهور ليقرأها وعندما أجبته بالإيجاب أخبرني أنه بعد أن قرأها عدة مرات قرر أن يرسلها إلى ناشر في مصر وهو الذي رد عليه بأن الرواية هائلة وأنه يريد إذنًا من الكاتب كي ينشرها.

هل تعلميني من هو الناشر يا آمال، ههههههه؟ إنه كمال!

سبحان الله هل ترين كيف كانت الأيام جميلة معي، وأن الله كبير ورؤوف ويحب عباده. 

شعرت آمال بالحرج للحظة، أما ليلى فكانت فى مهمة تريد أن تنجزها قبل الغروب، مهمتها التي جاءت من أجلها، ثم تنتهز الفرصة لتعيش لحظات الغروب الجميل عندما يحمر قرص الشمس، ثم يلمس مياه النيل يحتضنها و يغوص فى داخلها بتأنٍ جميل..

زر الذهاب إلى الأعلى