أدبي

المُلهِم

الجزء الثاني

وقت النشر : 2022/01/15 08:27:09 PM

المُلهِم
بقلم: شيرين شيحه

ماء الشعر.. ماء الفن.. ماء الموهبة
إذا قُدّر لإنسان أن يغترف منه غَرفةً، واختلط بدمائه، وجرى في شرايينه صار حيًا نابضًا بالإبداع، وكما أننا لا نستطيع اختزان الماء الطبيعي داخلنا، كذلك الحال مع ماء الموهبة، لسنا له بخازنين؛ فلا بد أن يخرج على هيئة نغم أو في شكل لوحة أو قصيدة شعر..
ويستوي في تلك الحال الذكر والأنثى، فالإبداع لا يفرّق في الجنس، بل إن الكتابة أو الفنون بشكل عام قد تكون سببًا لشفاء البعض، فنجد مثلًا الكاتبة المصرية نعمات البحيري
والتي تنتمي إلى جيل الثمانينات، حين داهمها مرض السرطان، لم تنهزم واتخذت من الإبداع سلاحًا لتواجهه، وجعلت من كتابة الرواية والقصة القصيرة متنفسًا لها، وخط دفاع قوي لمقاومة الموت واليأس.
إذن الكتابة ضرورة حياتية بالنسبة للموهوب ذكرًا كان أم أنثى، لنكن أولًا متفقين على ذلك،
وقد اتفقنا من المقال السابق على أهمية وجود باعث أو مثير للإلهام لدى الفنان أو الكاتب..
وبواعث الإلهام كثيرة، فكل مفردات الكون حولنا قد تكون محفزة للمبدع الموهوب، ولكن لأن بداية المقال حددت مساره فجعلته يأخذ منحى الحديث عن الملهمة للنتاج العاطفي لدى الفنان أو الشاعر، فسأكمل الحديث عن هذا الموضوع أيضا في هذا الجزء، ولكن بالنسبة للشاعر، فمن هو الملهم؟
من فترة دار حوارٌ إلكتروني بيني وبين الشاعرة والصديقة الجميلة تالا الخطيب عن هموم المرأة الشاعرة وما تعانيه من قيود اجتماعية أو حتى كتابية، وذكرت لها أنني حقًا أغبط الروائيات على القدر المتاح لهن من حرية التعبير دون إسقاط شعرها على شخصها فالروائيات – رغم اعترافي بأنهن لا زلن مقيدات كحال الكثيرات من النساء عمومًا – يتمتعن بقدر من حرية التعبير عن ذواتهن عن طريق التخفي وراء شخصيات العمل المتعددة، فيستطعن الفرار من مأزق الإسقاط المباشر على ذاتها وتجربتها الشخصية كما هي الحال بالنسبة للشاعرة.
وبعد هذا الحوار بعدة أيام وقعت على مقال للكاتب أحمد الشهاوي منشور في مجلة( نصف الدنيا) تحت عنوان (أن تهندس الكاتبة في الفراغ) يناقش هموم المرأة الشاعرة فيقول ما نصه”: والشاعرات كأنهن يخجلن أو يخفن من الشعر لأنه – على عكس الرواية – يهتك الستر، ويكشف المحجوب، ويفضح المخفي ربما للجوء أكثر الشاعرات إلى كتابة الذات، والخوض في التجربة الشخصية بعيدًا عن استخدام الأقنعة والرموز وتوظيف الأساطير وقليلات هن اللواتي مزجن بين ما هو شخصي وبين ما يعتمد في الكتابة على هندسة المعنى المجرد أو المطلق أو ما هو وجودي أو إنساني”
ثم يعرض الكاتب لبعض الأسماء التي اضطرت للكتابة تحت اسم مستعار أو أن تكتب بلغة أجنبية – وهي المتمكنة من العربية- لأنها تعطيها مزيدًا من حرية التعبير، ويذكر أنه يعرف شاعرات وكاتبات انسحبن من المشهد قبل الإصدار الأول أو بعده لتحتمي بجدران البيت،
وفي موضع آخر من المقال يقول: “الشعر ليس ذكوريًا فقط كي يتصدر الشاعر المشهد الشعري وحده، فتاريخ الأدب عرف إقصاءً َمقصودًا متعمدًا لطرد المرأة الشاعرة من جنة كتابة الشعر حيث غُيبت بقسوة وتم تهميشها شعريًا لذا بدا لنا أن عدد الشاعرات العربيات قليل”
وأتفق معه تمامًا فيما ذكر، بل إن حالة التهميش والإقصاء هذه أدت إلى موت الكثيرات منهن معنويًا أو حتى موتًا حقيقيًا موتًا جسديًا
فنجد مثلاً الكاتبة المنتحرة (عنايات الزيات) رغم ما يكتنف قصتها من غموض إلا أن جميع الأقوال أجمعت على أن حزنها الشديد نتيجة رفض روايتها التي عرضتها على إحدى دور النشر كان سببًا من الأسباب الرئيسة لإقدامها على هذا الفعل بجانب ما لاقته اجتماعيًا من ضغوط لمنعها من الكتابة، والغريب في الأمر أن انتحارها هذا جعل النقاد يلتفتون إلى عملها الروائي ليجدوا كاتبة جيدة تستحق الثناء، وقد نشرت روايتها فيما بعد، ولكن بعد فوات الأوان!
وهل كان الأمر مختلفًا بالنسبة للكاتبة الغربية؟
اقرؤوا معي هذه الكلمات للكاتبة الإنجليزية (فرجينيا وولف) تقول:
“إن أية امرأة تولد بموهبة عظيمة لابد أن تصبح مجنونة أو تنتحر أو تقضي أيامها وحيدة في كوخ منعزل خارج القرية.. نصف ساحرة.. نصف عرافة.. يخشاها الآخرون ويسخرون منها، ذلك أننا بحاجة إلى قليل من الفهم لنتأكد من أن الفتاة الموهوبة التي تحاول أن تستخدم موهبتها لكتابة الشعر سيخذلها الناس ويعيقونها وستعذبها غرائزها الشخصية المتناقضة بحيث إنها لابد أن تفقد صحتها وسلامة عقلها، إن النساء لكي يكتبن بحاجة إلى دخل مادي خاص بهن وإلى غرفة مستقلة ينعزلن فيها للكتابة”
جاءت هذه الكلمات نتيجة لحالة الحرب التي شنها النقاد الأوروبيون عليها وقالوا إنها لم تخلق حكاية أو رواية، كالتي ينتجها الكتاب الأوروبيون، ولا كتبت قصيدة كالتي يكتبها الشعراء، وصوروها بفاقدة العقل، فالتزمت صمتًا طويلًا أدى في النهاية إلى انتحارها غرقًا.
والأسماء كثيرة عربية وأجنبية
درية شفيق، وأروى صالح، أونيكا تسورن، لينا فريد(كاتبة ألمانية)وغيرهن الكثيرات..
واللافت للنظر أن جميعهن يشتركن في الملابسات الاجتماعية التي دفعت إلى إنهاء الحياة بهذه الصورة المأساوية..
لقد اجتمعت عليهن المثبطات من كل الجهات: الأسرة وقيودها.. المجتمع ونظرته.. زملاء المجال ورأيهم غير المنصف عن المرأة الكاتبة وكأن الجميع اتفقوا على قول:
“لا تقربوهن حتى يطهرن”
لقد كسرتم أجنحتنا ونحن لم نزل نحاول تعلم الطيران، ثم تعودون لتقولوا لا يوجد في تاريخ الأدب شاعرة في قامة المتنبي وشوقي أو أديبة في قامة العقاد والمازني أو روائية كنجيب محفوظ!
قولوا لي بالله عليكم، كيف نستطيع التحليق ونحن بلا أجنحة؟!

أسمعك الآن عزيزي القارى تقول:
لقد أسهبتِ كثيرًا في الحديث عن هموم الكاتبة ولم تجيبي على السؤال الأساسي في المقال (هل للشاعرة ملهم؟) أرى أنكِ ترمين إلى ترسيخ فكرة أنكن لابد أن (تهندسن في الفراغ) لكسر القيود المفروضة عليكن في الكتابة، والخروج من نفق الإسقاطات.. أليس كذلك؟

بلى، قد يكون ذلك حقيقيًا، عن نفسي أستطيع فعل ذلك بسهولة؛ فقد أتلبّس روح طفلة في العاشرة أو امرأة في السبعين أو حتى أتكلم بلسان رجل، فعلت ذلك في شعري كثيرًا بل إنني كتبت مرة شعور فنجان قهوة عندما أمسكت به إحدى الحسناوات، ذلك عليَّ هين..

ذات صلة

معنى ذلك أنه لا يوجد ملهم حقيقي في حياة الشاعرة؟
بالعكس، هو موجود، ولابد أن يكون في حالة المرأة حقيقيًا، قد تضفي عليه من الخيال أو من مواصفات فارس الأحلام – الذي لم ولن يوجد؛ ففارس الأحلام لا يوجد إلا في الأحلام – ولكنه بالتأكيد موجود..
– هل يتعدد الملهمون في حياة الشاعرة كما هي الحال في حالة الشاعر؟
بالتأكيد لا، فليس الذكر كالأنثي؛ المرأة – ذات الفطرة السليمة- ديدنها التوحيد؛ فلا يقبل جسدُها إلا برجلٍ واحد، ولا يقبل قلبُها إلا برجلٍ واحد، كذلك لن يقبل إبداعها العاطفي إلا بملهمٍ واحد.. قد يتغير، ولكنه يظل واحدًا في كل الفترات..
– إذن من يكون؟
لن يفيدك عزيزي القارىء أن تعرف من هو، وليس مطلوبًا من الشاعرة أن تضع وسمًا بإهداء لزوجها على كل قصيدة تكتبها، وماذا لو كانت عزباء أو لم تتزوج، هل سترد عليها بضاعتها؟!
أرى عددًا غير قليل حتى من الزملاء يحاول ممارسة هوايته في حل الألغاز والأحاجي واستكمال الكلمات المتقاطعة ليستخرج من بين السطور اسم ملهم الشاعرة أو الكاتبة فلانة أو علانة..
وأقول:
عزيزي القارىء، وعزيزي الزميل، بيني وبينك القصيدة أو النص الأدبي، حاكمني عليه واحكم عليه، ولا تحاكمني على شخصيتي وذاتي، ولا تفتش عن ملهمي؛ فلن يفيدك ذلك في شيء..

لو سمحتم لا تبحثوا عن الخفايا والخبايا وما وراء السطور. قلتُ مرة:
وأقبحُ ما علمتُ من الخطايا
تتبعُ ما سترتَ من الخفايا
لسان الناس يرمي بالنوايا
وربُّ الناس يجزي بالنوايا
إلهي، يا كريم العفو هب لي
لسان الصدق بعدي في البرايا

أرجوكم دعونا “نهندس في الفراغ” أو نترجم ذواتنا ونبض مشاعرنا، فما أُعطينا هذه الموهبة إلا لنكون لسان الأنثى المتكلم والمتمرد، دعونا نعبر عنها.. عن مشاعرها وقضاياها، عن معاناتها وأحلامها، لا تدفعونا إلى الموت بمعنييه المعنوي والمادي، وارحمونا من سياط الإسقاطات يرحمكم الله، لا تجعلونا نعيش أبدًا نردد بيت ابن عبد ربه(صاحب العقد الفريد)
“قلبي رهينٌ بين أضلاعي.” .
رهين الصوت.. رهين النبض.. رهين البوح..
رهينٌ بين أضلاعي..

المُلهِم.

تمت المراجعة والتنسيق من قبل فريق ريمونارف.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى