أدبي

صاروخ الاستغاثة الأخير

وقت النشر : 2022/01/23 06:06:18 PM

صاروخ الاستغاثة الأخير

قصة قصيرة

بقلم: هويدا سالم

 

كان كمن يقف في سوق كبير للنخاسة، عاريًا تتفحصه آلاف الأعين بلا استحياء، تقلِّبه أيديهم ثم يمطون شفاههم ويرحلون زاهدين فيه، لا يذكر متى اقتيد إلى ذلك المكان بعد أن فقد كل شيء؛ بيته الجميل على شاطئ النهر، أهله، رفقاءه، كتبه.

فصول تتالت؛ اهترأت خيمهم، وبليت ملابسهم، ونحل عودهم، وبقي الحلم داخله تشعله الوعود ليطفئه طول الأمد.

في العام الماضي وعده ذلك الصحفي الحقوقي أن يوصل صوته للعالم، وقد تقبل إحدى الدول استضافتهم لحين انتهاء تلك الحرب الهمجية، ولكنه ذهب ولم يفِ بوعده، لم يبق أمامه إلا أن يدعو أن تضع الحرب أوزارها. وهنا ضحك متهكمًا: ربما نحن وزر ذلك الوطن لذلك لفظنا كما يلفظ البحر الجيف النتنة.

هذا الشتاء كان أشد وطأة مما سبق، حاول ورفقاؤه توفير أحطاب الوقود لزوم التدفئة، ولكن حاربهم الشتاء بكل أسلحته؛ بالمطر تارة، وبالثلوج تارة أخرى حتى وهنوا، وبدأ الضعفاء من الشيوخ والأطفال يتساقطون كأوراق جافة. تلك الليلة، ماتت طفلة صديقه الوحيدة، لا يدري لماذا لم يقدر على البكاء، ربما ليقينه أنها نجت، ولكن بقيت نظرتها المتوسلة الواهنة تخرق قلبه كسهمٍ مسموم، فخرج يستجدي بعض الدفء عند بقايا النيران التي يتحلقون حولها في بداية المساء.

سمع هنا أنينًا وعويلًا هناك، رأى أمهات ثكلى، وصغارا يمزقهم الجوع، والبرد، والخوف، ورجالا مهزومين، شق عقله سؤال: إلى متى؟! وعندما لم يجد إجابة، باغتته لحظة جحيمية ويكأنه بطل رواية شكسبيرية ممتلئ بالتمرد، والحنق، ومعاندة الأقدار.

أمسك صفيحة الكيروسين التي يشعل بها أهل المخيم مواقدهم، وبدأ يجري كمن أصابته لوثة، وأخذ ينثره على الخيام، كان يصرخ ما وسِعه الصراخ: استيقظوا، شاركوني النحيب والدفء على شرف بقايانا وأشعلوا معي صاروخ الاستغاثة الوحيد المتاح؛ ربما تصل نيراننا لأولئك المرتجفين خلف عروشهم، المكبلين بحب السلطة وشهوة الحكم، أو ربما ترانا سفينة تائهة تحمل آخر ما بقي من إنسانية هذا العالم. وأخذت يده ترتعش وهو يرمي عود الثقاب ليشتعل كل شيء، وتسافر الصرخات للآفاق البعيدة.

زر الذهاب إلى الأعلى