أدبي

غِل

وقت النشر : 2022/07/11 03:25:32 PM

غِل

بقلم: عصام الدين محمد أحمد

يشعوذني الغضب، آمره بترك العمل، ولكنه لا يمتثل.

أخشى أن تضيع هيبتي، أركل الشيشة، تتطاير الجمرات، تتشظى، أتخطى العمال دافعاً هذا ودافساً ذاك.

ينط، يلتمس الهرب.

لا أمكّنه من النجاة:

فاللحظة لحظة عقاب ووجود، هكذا أسررت لذهني المتقد.

أهجم عليه، أضربه بكلتا يديّ، أصفعه، يقفز، أشده بعنفوان ..التم العمال.

حالوا دون خدشه، يفلت من يدي، استبد بي الغيظ.ود

لابد من تأديبه حتى يرتدع من تسول له نفسه الشرود، هكذا أقر عقلي المُـنفلت.

“الجدي” يعطيني حبتي “أبو صليبة”.

أبتلع الحبتين وأتبعهما بكوب عناب سكره زيادة، بدايات المشهد تراودني:

” يا عبد الحفيظ اعدل “التشوينة”.

جاس جميع الاتّجاهات ماعدا جهتي، يشاغلني أحد العاملين:

يا ريس استرح ولا تشغل بالك بالعمل.

صحت في الجالس أسفل العارضة، الذي يلقف البطيخ بيده: انتبه.

“الفياي” الذي يجلس القرفصاء مواجهاً الولد الذي يتلقى سيل البطيخ المُندفع من سطح سيارة النقل يخطئ كثيراً في الفرز، أستبدله بآخر.

“الميلم” يأتي بحجر معسل جديد، أستهلكه في نفسين.

مازال عبد الحفيظ لا يضبط الرص.

أين الهاتف المحمول؟

وقع من جيب جلبابي، تكسرت شاشته، ثمنه عشرة آلاف جنيه.

بلغ مني الحنق شأواً عظيماً.

أبحث عن هذا المستهزئ، لا ألمحه؛ ابتلعته الأرض، ربما!

خطفته السماء، جائز!.

فيمن (أفش غليلي) الآن؟

على الأقل أصفعه، أهبده فوق الرمال!

اشتعلت النار في سيجارة البانجو، نفس ونفس، الأدخنة غربلت نافوخي، (نخششت) في أم رأسي.

أتبع السيجارة بشم خطين بيور، فتت البيور خلايا المخ المسطول.

رمال وبطيخ ورجال، “تشوينة وراء تشوينة”، لا نملك إلا التراجع للخلف، نزحف كانسين القاع من نتف الأوراق والخراء الجاف.

عشرة بطيخات على خط مستقيم، تليهم تسع على خط مُعشق في الأول.

حتى في رص البطيخ للجنس وجود، ذكر وأنثى، عاشق ومعشوق، والرمال فراش وثير.

وفوق السطرين تسع أكبر حجماً.

ويلي السطرين ثالث، فقط ثمان بطيخات.

عالم كله بطيخ!

هكذا كان يسخر أستاذ الفلسفة مُتهماً أرسطو بالغباء، وديكارت بالشذوذ وسارتر بالفضيلة.

فوق الثاني والثالث ثمان ثمار وكذلك مثلهم فوق السطرين العلويين، وهكذا دواليك إلى أن تتوج بطيخة ضخمة الرأس، تماما كملك مدينة الجماجم.

مئتان وعشرون بطيخة، تنسجهم اليد بخيوط الغرام والهيام والالتصاق.

آه .. آه؛ ما بال البيور لا يخطف؟

جرب خطاً ثانياً وثالثاً … وفوق المرآة الصغيرة أنثر البيور، وبعملة ورقية جديدة أصنع خرطوماً، أستنشق بعُمق .. بعُمق أستنشق:

“أتدري يا معتوه أن زمن الحوارات انتهى، سافر فوق مرآة قالوا أنها مصقولة، تعكس الوجوه، ولم تعهد الأقنعة.

فيها وجه، وعينان مبحلقتان تسترجعان شرر عبد الحفيظ:

جلبابه المكرمش المنسول، وتناجيه مع كل من هب ودب، فهو الأحق بالرئاسة، بالسرقات، بالرزق الوفير، هكذا ينشر أحقاده فوق حبل غسيل قديم.

في المرآة فم مُطبق ولسان مُنعقد وقلب مكلوب، مائة لسان ولسان يرمونني بقوالب الاتهامات.

ألا يحق لي القهقهة والسُخرية؟

ففي سراديبهم مائة خائن وخائن.

غادرت المرآة، غادرتني، تكسرت وفي نثارها الخديعة “

مدحت أفندي يستعجلني، يلح علي بالعودة إلى البيت.

ما الذي يدفعني للهرب؟!

لماذا لا نمشي في الهواء الطلق؟!

نستنشق الانتعاش ونلقي بالأسمال على قارعة الطريق.

وفوق ضفاف النيل قعدنا، المياه متلألئة بالنيون المُنبعث من دكاكين السياحة العائمة، اعتراني الشرود، أشرقت الشمس وبأقدام تعبة رجعنا إلى الشادر.

العُمدة يرفل في صُحبة الجدي وسيد حمودة وأنور الجندي، مزاح ومُزاحمة، وقـُبيل المزاد اقتحم المحل أمين شُرطة وبيده ورقة استدعاء.

المُهم .. أعطيته عشرة جنيهات، وطلبت منه النسيان، لكنه أومأ لي بأن المدعو (عبد الحفيظ) هو الشاكي.

عاطف يقرع طبوله، وسيد ينفخ زميره، لحظات من الدق والصفير وانتصب سيرك المزاد، والمعلم يستهل ترنيمته:

المُسلم يقرأ الفاتحة، والمسيحي يمجد سيده، ولكل واحد نبي يصلي عليه.

بكم نفتتح المزاد؟

أنور الجندي يلف حول البطيخ، ويخبط عليه ليعرف من الرنين درجة السوى.

وسيد حموده يدعي التلهي والانشغال بحجر المعسل المٌتقد، ووليم يساوم بائعيه على الشراء.

أخيراً نطق أنور الجندي: جنيه ونص.

والعُمدة يعلق: “انخلي ياللي عاوزة تخبزي”.

انفكت عـُقدة لسان سيد حمودة :

جـُنيهان .. ثلاثة … أربعة ونصف.

سجلت في “الطيارة” السعر قبل أن يُبارك المعلم، كر وفر على مدى ساعة كاملة وانفض المزاد.

هرولت إلى المكتب المليئة شقوقه بالبق، أعد الكشوف.

سيد حمودة في أثري، لسانه يُكرر:

خفض ربع جنيه في كل بيعة.

يهديك … يرضيك.

لا فائدة من الرجاء، يُصر على التنزيل، المعلم يهرب –دوماً– من المواجهة وفي نهاية المناوشات أرضخ لأوامره، انتهيت من الفواتير، حملت أثقالي وتمهلت الخطى إلى السيدة نفيسة.

توضأت، المياه مسحت الهموم.

أتوجه إلى القبلة، فؤادي ينمل، لم ترتبك جوارحي، هدأت.

أذكر الله … الله، الثلج يطفئ ناري، أترنم في حبور.

هطل المساء، وفي باحة المسجد وجدت عبد الحفيظ رابطاً رأسه بشاش منقوع في الميكروكروم واليود.

اصطبغت رأسه بألوان الطيف، وفوق صدره أكثر من مئة مسبحة.

لن أدعه يفلت من يدي.

صوت عجوز يرطب الأجواء: المُسامح كريم يا معلم.

لن أفرط في حقي.

أمسكت رقبته من فتحة الثوب، وصوته يلهج: والنبي يا ريس سأتنازل عن المحضر.

فتشت جيوبه، رُزمة من عشرات الجُنيهات: مائتان وخمسون جُنيهاً وبضع شلنات، أودعتهم جيبي قائلاً:

أدعيت فى المحضر أننى سرقت منك أربعمئة جنيهاً، والآن يبقى لي عندك مائة وخمسون جنيهاً.

أصوات تتماس:

مدد يا نفيسة العلوم، حيارى القلوب في محرابك مشتاقون.

نزعت الشاش بسُرعة وقوة.

يقرعني السؤال:

أتراه يرتزق بالمسابح وطاسة البخور!

في جبهته شق غائر.

وتعميق الحفرة قد يغري الناس بالتعاطـُف!

صوته المتلجلج يستعطفني: سأعترف لك: السبت الماضي تعاركت مع (برهامي) فوق الجبل، أتباعه بطحونني، وفي المُستشفى خاطوا الجرح بثلاث غرز.

أكملت القص:

بالأمس نزعت الخيوط، فررت إلى النُقطة.

وهنا تدخـُل العجوز متورم الوجه وكث الشعر ناصحاً:

زد له الأجر وميزه عن الآخرين.

بقايا الطعام عالقة فوق كرشه البالوني، أضحك بهستيرية مُعقباً:

أميز من؟

عيونه فارغة؛ لايملؤها إلا الدود والتراب، ولن تكفيه أموال الدنيا.

لم أمنع قبضتي من الضرب.

حاول أمين الشُرطة انتزاعي من فوقه؛ لم يتمكن.

لم أنس دس العُملة الورقية في يده.

تمت المراجعة والتدقيق من قبل فريق مجلة ريمونارف الأدبية.غِل

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى