أدبيمقالات متنوعة

تخاريف شتوية “قصة قصيرة” بقلم: هبة محمد زغلول

وقت النشر : 2024/08/29 08:21:09 PM

تخاريف شتوية “قصة قصيرة”

بقلم: هبة محمد زغلول

في تلك اللجظة التي هي الحد الفاصل بين لحظات الليل الأخيرة ولحظات ميلاد النهار الأولى … اقتربت من النافذه وشاهدت سطح ضبابي قد علا النافذة..كان بفعل برودة الهواء في هذه الساعات الأولى من الفجر.. فكانت جزيئات بخار الماء تتجمع على السطح الزجاجي لنافذتي لتمتزج وتتلاحم مع بعضها البعض لتصنع هذا النسيج الضبابي الخفيف..كان يحول دون رؤية ما يقع خلفه بشكل واضح..

عُدتُ لأنظر خلال هذا الوجه الضبابي لعلِّي أستطيع أن أتبين شيء من الظلال التي تبدو من خلفه..
وإن كنت أعلم حقيقة هذا المشهد في وضح النهار إلَّا أنني حاولت أن ألتقط شيء من ملامحه من خلف هذا الوجه الضبابي..
كان كل شيء يبدو مختلفًا؛ أغصان الأشجار..البنايات..الأضواء…كل شئ فالظلال لم يكن شكلها مألوفًا لي من قبل..كنت قد اعتدت الرؤية المباشرة تحت الأضواء القوية المباشرة…فكنتُ أخشى الأضواء والأفكار الخافتة..

كنت دائمًا أخشى الاقتراب من هذا الحاجز الضبابي كما لو كان المجهول هو ما يقع خلفه!!!
وماذا لو كان كذلك؟؟
أليس من المثير للفضول أن أقترب وأحاول اكتشاف هذا المجهول؟؟
ولكن هذا لم يحدث قبل اليوم!! ولا أعلم لماذا؟؟
هل كان الخوف أم عدم الاكتراث أم كليهما معًا؟؟

وخلال هذه الفترة القصيرة التي شردت فيها بأفكاري بعيدًا..عدت لأنظر إلى السطح الضبابي للنافذة لأجد قطرات الندى قد بدأت بالتكثف على السطح الزجاجية للنافذة..

كانت قطرات الندى تبدو كبلورات ماسية متواجدة على هذا السطح الزجاجي.. كانت متكاثرة ومنتشرة إلى حد كبير..يصعب رؤية من بينها أي شيء… ولكن إذا نظرت من خلال إحداها كانت الرؤية مختلفه تمامًا عن الرؤية من خلال واحدةٍ أخرى… كما لو كانت كل منها تطل على مجرة كونية منفردة..

كانت كل قطرة تنفذ إلى منظور ورؤية خاصة بها ..كانت تنفذ إلى موضع بعينه دون غيره ..فتدرسه وتعمق الإحساس به وتتفاعل معه دون غيره… كانت تبدو كل منها كعدسة تلتقط المشاهد الدرامية من الحدث وتسلط الأضواء عليها لتبرز هذا الحدث..

ومن خلف تلك المشاهد رأيت مشاهد أخرى في كل بلورة من تلك البلورات؛ رأيت بإحداها طفلة ذات ملامح حالمة وبأخرى عيونًا بريئة وحائرة ولكنها طموحة وواثقة.. شاهدت في قطرات الندى أقمارًا ولقيت بها أسفارًا، ربما لم أكن التقيتها أو سافرتها من قبل..

كانت لحظة ثرية بكل ما تحمله الكلمه من معنى .. وتمنيت لو كانت تلك اللآلئ الماسية حقيقية لأتمكن من جمعها والاحتفاظ بها ككنز أبدي ملك لي..

وهنا بدأت واحدة من قطرات الندى تتكسر وتسيل على السطح الزجاجي الأملس تاركةً خلفها مجرى زجاجي جاف شريطي صغير… كانت تبدو لي كدمعةٍ تهوِي عن عيون الكون…

نظرت لهذا المجرى الشريطي الضيق الذي رسمته القطرة في سبيلها للسقوط … وتذكرت به أجزاءً متقطعةً من شريط أعمار مضت وأخرى بدأت،  وعن حقائق بهتت وأخرى تجلَّت..

تذكرت أن لقطات الحياة كقطرات الندى لا يمكننا الاستئثار بها وتملكها أو التوقف عندها، ولكن يمكننا أن نتذكرها ونسعى لحمل ذكراها بصدورنا..

وبدأت أنظر خلال هذا الشريط الضيق لأشاهد جزء صغير من لوحة خلفية رائعة..

كانت الأضواء الخلفية ذات لون أزرق خافت ..كطفل يحاول التسلل من فراشه الليلي لينتظر اكتمال الصباح ليواصل لعبه ومرحه.. وبدت أجزاء من أغصان الأشجار كنبلاء مشحوذي الهمة ومرفوعي الهامات..

وبدأت قطرة أخرى مجاورة تأخذ سبيلها في الاسترسال على السطح الزجاجي لنافذتي؛ مصفحةً عن عنصر آخر من عناصر اللوحة.. فكانت ملامح ضئيلة من الشمس تظهر من خلال هذا المجرى الشريطي الصغير بينما بقيتها تختبئُ خلف بقية القطرات المتبقية… كانت الشمس تبدو كبقية للأطفال الذين خرجوا واحدًا تلو الآخر ليعلنوا عن بداية يوم جديد من اللعب واللهو..

واسترسلت القطرات بعد ذلك تباعًا لتهوى كل قطرة إلى الأسفل وتكشف من خلفها مجاري شريطية صغيرة على السطوح الزجاجية الملساء.. فهي تهوي لتلتحم بقطرةٍ أخرى لتتابع سبيلها معها وتسري وتشكل المجرى الجديد… وبعضها مازالت تسكن في ثبات تنتظر لقاءها بآشعة الشمس لتعلو معها بين السحاب… وأخريات يصنعن طريقهن لرسم سبل وشرائط الحياة بلا خوف لتعلن خلفها عن بقية أجزاء اللوحة متكاملة.

كانت تبدو غاية في الروعة والإشراق .. وكانت العصافير بدأت رحلتها الصباحية كانت تنتقل بين الأشجار وهي تقفز وتطير في نشاط بمنظرٍ خلاب.. كانت صورة جميلة بهية الأركان..
لم يكن ينقصها سوى بعض المؤثرات الخارجية لتكتمل روعتها.. ففتحت النافذة وأطلت منها لتهوى نسمات من الهوى على وجهي لتمتلئَ أنفاسي بهذا النسيم الصباحي اللطيف.. كانت الأجواء تمتلئ برائحة رائعة كتلك التي تختلط فيها رائحة الأمطار مع أمواج البحر بالقرب من بستان للفل والياسمين لتولد هذا المزيج العطري الفريد..

كنت أتحسسه بقلبي لينقلني إلى عوالم أخرى وأحلام كنت أظنها بالبعيدة.. ويصحبها صوت زقزقة العصافير وهي تسبح بحمد بارئها وتسعى لأعمالها بسعادة وتفاؤل لبداية اليوم الجديد..

كانت أفكاري هي الأخرى مشرقة ويملؤها الأمل والنشاط.. كنت أسعى لرؤية ما وراء الأفكار.. ما يقع خلف تلك البنايات والأغصان ..ماوراء السحب.. وما يسكن بقلب الشموس..

كنتُ أستمتع إلى سيمفونية رقيقة متناغمة كما لو كان مصدرها ينبع من وجداني، وكنت أتابع وقعها بعيني وبقلبي وبكل كياني..

إلى أن وقع بصري على نبتة صغيرة كنت غرستها على نافذتي ووجدت عليها بضع قطرات الندى… ولأول مرة تحسستها … كانت ناعمة الملمس رطبة كان منظرها يبعثُ شعورًا يغمرني بروعة الإحساس، فأخذتُ أنظر إليها وأُتابعها وهي تمضي برحلتها…

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى