أدبيمقالات متنوعة

هكذا نشأ العملاق بقلم: الكاتب والناقد حاتم سلامة

وقت النشر : 2024/08/29 07:26:32 PM

هكذا نشأ العملاق
بقلم: الكاتب والناقد حاتم سلامة

حينما تظهر أمامي صالحًا أم طالحًا مهذبًا أم منحرفًا، خلوقًا أم وقحًا، شجاعًا أم جبانًا، فإن أو ما ينصرف إليه ذهني من تحليل عنصرك، وأسباب هيأتك، هي نشأتك وبيئتك التي كونتك وأخرجتك على هذه الصفات والخلال.
نعم.. البيئة محضن النشأة ومهد التربية والتكوين، هي التي تشكل الطباع وتحدد الأخلاق، وترسم السلوك.
ويكون لك وحدك تحديد هذا المرجع الذي انطلق منه؛ فأذم هذه البيئة أو أمدحها، أنت وحدك من تحدد هذا المسار بفعلك وخلقك وتصرفك أمامي.

نحن إذن باستطاعتنا إعداد جيل عظيم ينهض بوطنه وأمته، حينما ننهض فيه بعناصر الأخلاق، فننميها ونرويها، يمكن لنا أن نخرج للدنيا عظماء وقادة ونوابغ، لو كانت طرق التربية سليمة راشدة منضبطة سوية.

واعتماد التربية في كثير من الأحيان لا يتطلب خبراء بأصولها أو متخصصون في إفهامها وقواعدها، فيمكن أن تكون التربية بالفطرة ويباشرها بيت لا فقه له بما حدده العلم الحديث من هذه المفاهيم والقواعد.
كانت هناك كلمة دائمًا ما تأسرني كلما تذكرتها، وهي مقولة لحكيم الإسلام جمال الدين الأفغاني، حينما تعرف على الشاب محمد عبده، وصار الأخير من تلاميذه المقربين، فكان جمال الدين يقول له مبهورًا بسماته وأخلاقه وأدبه: قل لي بالله عليك، من أي أبناء الملوك أنت؟!

لم يكن محمد عبده من أبناء الملوك، ولكن من نسل فلاح بسيط فقير، استطاع أن يربيه تربية حسنة، ويغرس فيه معاني القيم والأخلاق الحميدة، فكان على أفضل ما يكون سمتًا وطبعًا وخلقًا.

والعقاد العظيم، لم يكن كذلك من نسل الملوك، مع أن القارئ لحياته ومواقفه يجزم أن هذه النفس الأبية المتعالية، من نسل الأباطرة الذين يعتزون بأنفسهم إلى درجة تناطح السماء، بحكم ما وجدوا فيه أنفسهم، وكذلك بحكم ما وجد العقاد فيه نفسه، في بيئة فرضت عليه أن يكون كما علم وكما نعلم عنه إباء وأنفة.
نعم.. إن إباء العقاد يحتاج منا إلى كثير من تفسير وتعليل، هذا الإباء الذي فسره بعضهم بأنه الكبر والتعالي، ولكننا وبنظرة بعيدة، وبالتركيز على طبيعة تلك الأسرة التي كثيرًا ما أنبأنا عن حالها وسلوكها، ندرك كيف خرج العقاد الذي نعرفه، مستمدًا صلابته وعزة نفسه من أم وأب وكأنهما اجتمعا وتوافقا ليخرجا للأمة هذا الجسور العملاق، الذي لا يمكن أن تتحدث عنه إلا ويطلع عليك بإلحاح عزة مفرطة وكبرياء لا حد له.

في بواكير حياته وصباه تبدو ملامح التكوين لهذه النفس الأبية في مشاهد متعددة من ذكرياته وما قصه علينا في سيرته؛ إذ نجده يقول: « ومما يحضرني من ذكرياتي فيما دون العاشرة أنَّني رفضت كل الرفض أن ألبس البنطلون القصير يوم دخلت المدرسة في نحو السابعة من عمري، وأنَّني رفضت أشد الرفض أن أجيب نداء المعلم حين دعاني باسم عباس حلمي جريًا على تقاليد ذلك العهد التي بقيت الى الآن في أسماء المعاصرين ، فلم يكن أحد من التلاميذ يدعى باسم أبيه ولكنهم كانوا يلقبون بألقاب حلمي وصبري ولطفي وحسني وشكري وما شاكلها على حسب المطابقة لأسماء المشهورين أو موافقة الجرس اللقب ورنينه في الأسماع فبقيت واحدًا من قليلين يذكرون بأسماء آبائهم بين أبناء الجيل . ولولا إصراري على رفض اللقب المستعار لكان اسمي اليوم عباس حلمي محمود.”

يعلق سامح كريم على الكلام بقوله:
“وفي هذه العبارة دلالات دقيقة، فالطفل الذي كان عمره دون العاشرة لا يقبل أن يلبس البنطلون القصير كما يفعل أترابه في المدرسة.. فهو يرى نفسه أكبر من هذه السن ويرى نفسه أيضًا متميزًا عن غيره من الأطفال بالنضج الذي لا يتماشى معه البنطلون القصير.. لا يهم أن يكون مظهره شاذا بين أترابه ما دام هو مقتنعًا بذلك المظهر اقتناعا كاملًا، ومن هذه القصة يتنبأ له من كان يراه في هذه السن بمستقبل غير عادي.

ونفس العبارة أيضا تحمل سمة من سمات العقاد التي عرفناها بعد ذلك هي سمة التمرد والثورة.. فهو لا يقبل أن ينتسب إلى الخديوي.. ويفضل بل ويفخر بأنه كان هو الوحيد الذي نُسبَ إلى أبيه، وفي كتاب آخر يؤكد أنه ما سُمي بهذا الاسم تيمنا باسم الخديوي ولكن تيمنا باسم واحد من آل الرسول ويؤكد ذلك إن بقية أسماء اخوته كانت تيمنا بأسماء آل النبي عليه الصلاة والسلام.”

ومثال آخر يرويه لنا العقاد في كتابه «أنا»؛ وهو ما تعلمه صغيرًا ولزم به منهج الجدة والوقار، حين كان صبيًا فيما دون الثامنة يجلس في المنزل بين القريبات والجارات من النساء، ويجده والده على ذلك الحال فيصيح به غاضبا ويقول: «عباس.. ماذا تصنع هنا بين النساء؟ تعال معي فاجلس بين أمثالك. يتساءل العقاد قائلًا: ومن هم أمثالي؟ شيوخ فيما بين الاربعين والسبعين كانوا يسمرون معه في المندرة ويقضون الوقت في أحاديث الشيوخ عن السياسة تارة وعن قضايا الأسر الكبيرة تارة أخرى. وقلما يمزحون أو يتفكهون إلا ثابوا إليَّ وقارهم كالمعتذرين وكانت السهرة تنقضي على أحسن حال، إذا حضرها شيخ متحذلق معلوم فيه بعض الغفلة.. فيناوشونه بالأسئلة المحرجة والدعابات المتناقضة.. ثم يعودون إلى ما كانوا فيه.”
وهكذا انتشله أبوه من الجلوس مع النساء ليجلسه مع الكبار وهنا نراه رجلًا قبل أن يبلغ مبلغ الرجال، الذين تأثر بهم وبحالهم وطباعهم ولم يعد مثل من يماثله من الصبية، بل ظل ملتزمًا بهذه الجدية التي تشربها من طبيعة من كان يجلس إليهم من هؤلاء الرجال.

لقد وصف هذا الوالد بقوله: “كان يدين بالجد في الواجب، أو بالشدة في الجد، وكان يرى للطفل ما يراه للشيخ، إذا كان الأمر أمر فريضة، أو عمل محمود أو عرف مأثور”
والعقاد في حياته ورغم فقره الشديد لم يسقه هذا الفقر أبدًا أن يقدر المال أو يصير عبدًا في طلبه، بل على العكس كان العقاد يحتقر المال، ويعامله كما يعمل أي شيء في حياته بعزة وكبرياء، فالعقاد مخلوق يأبى أن يذل نفسه لشيء ويرفض أن يرى نفسه عبدًا إلا لله وحده.

ومن هنا ومدام المال في نظره مما يذل رقاب العباد، فليوجه إليه إذن سهام الأنفة والتعالي والشموخ.. وهذا السلوك لم يكن وليد طبع أو خلق في نفسه، وإنما وليد تربية وحال أسرة وبيئة تحتقر المال، فوالد العقاد كان بهذه الصورة يرفض أن يبيع ضميره لأي مكسب ومال، ويأبى أن يستبيح لنفسه القيام بعمل لا يرضاه في مقابل أي مبلغ من المال، ولا يسمح لنفسه أن يجني الثروة عن طريق غير مشروع.. يقول العقاد عن والده: “ومن تقديراته في احتقار المال الذي يكسب عن طريق الاساءة إلى الناس، أنَّهُ زجر أخي الكبير زجرًا شديدًا حين علم أنه ينوي التبليغ عن بعض المتهمين في قضية جعلت للمبلغ فيها مكافأة قدرها خمسون جنيها أو مائة لا أذكر على التحقيق.”

وعن هذا الوالد أيضا تعلم العقاد كيف يعتز باسمه وكرامته ويثور ويتحمل العبء والخسارة والعواقب السيئة في سبيل فخار هذا الاسم ورفعته، فيقول عن أبيه في هذا الصدد: “ولم يكن يغضب لشيء كما يغضب لكرامته وسمعة اسمه، ومن ذاك أنه كان له حمار ينتقل عليه من قرية إلى قرية حين كان معاونًا للإدارة.
فلما استقر بالمدينة باعه لبعض المكارين وكان الحمار مشهورًا بالسرعة وهدوء الحركة، فكان المستأجرون يطلبونه ويقولون للمكاري هات حمار العقاد ثم اختصروا كعادتهم فأصبحوا يطلبونه فيقولون هات العقاد – هات العقاد.. فلما سمع بذلك عاد فاشتراه وقبل المغالاة في ثمنه على غير حاجة إليه، واستبقاه يعلفه ويتحمل ضجته حتى اشتراه من ينقله إلى قرية بعيدة لا يستخدمه فيها بالكراء”

لم تكن الأم غائبة في ميدان التكوين لهذا العملاق الواعد، فلقد ورث عنها حب الصمت والاعتكاف وكان الناس يحسبون هذا الصمت والاعتكاف عن كبرياء ورثته هي عن أبيها وكانوا يقولون: إنها نفخة أتراك، ولكن العقاد يؤكد في سيرته أنها كانت طبيعة تورث وخلقة بغير تكلف، وكثيرًا ما كان العقاد يدفع عن نفسه تهمة التكبر بأنه ليس كذلك.. أنه مطبوع على العزلة والانطواء على النفس في أحسن الأحوال وأسوأها على السواء. ولا حيلة له في ذلك لأن أسبابه عميقة يرجع بعضها إلى الوراثة. وبعضها إلى الطفولة الباكرة وبعضها إلى تجارب الدنيا التي لا تنسى..

“كذلك ورث عن هذه الأم قوة الإيمان وقد خاض أعنف المعارك وليس له من سلاح إلا قوة إيصاله، ويرى أن هذا السلاح إت توافر فهو من أخطر أسلحة النصر في المعارك.. سوف نرى كم من المعارك تلك التي دخلها العقاد فيها خصومه أكثر منه قوة وأعظم تأثيرًا.. ومع ذلك لم يتهيب ولم يخش شيئًا وإنما دخلها بقوة إيمانه وبصدق عزيمته.”

ولقد عرف العقاد من هذه الأم معنى الصمود والجلد والتحدي، تعلم منها الصبر على الرسالة، والكفاح من أجل الغاية، ولا شيء في الدنيا يصرفه عن هدفه الذي نذر نفسه من أجله، فها هو يصفها بقوله: ” لقد توفي والدي وهي في عنفوان شبابها، وكان لي أخ صغير، فتوفرت على تربيته وتركت كل شاغل غير طفلها هذا وأبنائها”
لقد كان العقاد يحب أمه ويراها الإنسانة المثالية، حتى أنه قال لها يومًا:” لو وجدت زوجة مثلك تزوجت الساعة”، يقول العقاد: ” ولم أكن مجاملًا والله ولا مراوغًا.
ولكن العقاد لم يجد مثل أمه، لم يجد أحدًا يشبهها وهو الذي هجر موطنه وذهب إلى القاهرة وتعرف إلى المدينة وانفتح على كل أطياف المجتمع، لكنه لم يجد مثل هذه الأم.
والعقاد لا يحب نفسًا إلا أن تكون ذات أثر فيه، ولا يمدح نفسها ويصفها بصفات الكمال إلا كانت مما يبهره خصالها التي يقتدي بها.

زر الذهاب إلى الأعلى