أدبي

عودة

وقت النشر : 2022/06/15 12:13:38 PM

عودة

بقلم: شيماء الجمل

وقفت تتأمله من بعيد، تسترجع ذكرياتها الجميلة به، كانت مصانه بداخله،

بعيدة عن كل من انتوى بها الغدر والأذى، سعيدة بكل ما عاشته برفقتهم،

فهي فتاتهم الوحيدة التي تفننوا جميعا في تدليلها، حتى بعد وفاة والدتها، لم يحملها أحد مسؤولية،

لم تجد نفسها بديلة أو ملزمة بما كانت تقوم به والدتها،

بالعكس تماما، فقد تماديا في تدليلها والاعتناء بها حتى لا تستشعر ألم اليوم والوحدة،

لم يتركا لها مجالا لتحزن أو تفتقد والدتها وتشعر بغيابها، فكانا لها نعم الأب والأخ.

عبرت إلى الجهة الأخرى، وقفت تتأمل الباب القديم، احتضنت ضلفته تبثها شوقها،

تجاوزتها لتقف أمام درج المنزل، كادت أن تتصعده بفرح كما كانت تفعل منذ زمن ليس ببعيد،

وقفت حائرة ضائعة عندما تذكرت أنها فقدت حق الاقتراب منهم بعد أن عارضتهم،

وقفت أمامهم لتتزوج من تريد، لم تستجب لتحذيراتهم، ظنت أنهم يريدون منعها كنوع من ممارسة السلطة

– تريدين فرضه علينا، تبا لحب أعمى سيسقطك في بئر سحيق.

 استماتت في الدفاع عنه أمام والدها

= لم تعط نفسك الفرصة للتعرف عليه، تبني حجتك على ما سمعت عنه

– سألت عنه أقاربه، وجيرانه، وأصدقاءه في كل عمل التحق به وتركه بعد فترة وجيزة،

اجتمع الكل على سوء سلوكه وسرعة غضبه، كما ذكر بعضهم معاقرته للخمر، ألا يكفيك هذا لتعلمي أني خائف عليك؟!

= سيتغير، أعدك بذلك.

تابع أخوها حديثهم بغيظ، فما كان منه سوى أن قام إليها، جذبها من ذراعها ليديرها نحوه قائلا بغضب:

– لن تتزوجيه، وهذا نهائي، ولن تغادري المنزل حتى نزوجك نحن لمن نرتضي دينه وخلقه.

احتجزها داخل غرفتها لأيام، امتنعت خلالها عن الطعام حتى أصابها الإعياء الشديد، أشفق والدها عليها،

فخفف حصاره قليلا علها تتحسن، استغلت حنانه عليها وهربت من المنزل، ابتعدت عنهما قدر المستطاع حتى عندما …

طرقات قوية على الباب، لم تجد صدىً عنده، تجاهلها وأصحابها، أراد أن يكمل ما بدأ للنهاية.

كادت أن تلقى حتفها بين يديه، لم تكن المرة الأولى،

بدأت مأساتها بعد أول شهر من زواجها من فتى الأحلام الذي ضحت بعلاقتها بكل أحبابها ثمناً للعيش معه تحت سقف واحد.

توقعت المزيد من السعادة، صدقت أحلامها الوردية، آمنت أن الحب أهم وأبقى من التكافؤ المادي والاجتماعي، وقبل أن تدرك خطأها،

وجدت نفسها تدفع ضريبة تمردها على كل من أخلص النصيحة لها.

اكتشفت كل مساوئه؛ لا يستطيع التحكم في أعصابه، يتنقل من عمل لآخر بسبب سوء تصرفه،

عاشت معه أياما من الألم، والجوع، عانت برفقته من الإهانة، حتى لحظاتهم الخاصة أصبحت بلا معنى، زهدت فيها لشدته،

ولرائحة الخمر المقززة التي تفوح منه كل ليلة، يستطيع الاستغناء عن طعامه مقابل أن يشتري ذلك السم الذي يغيِّب عقله ويحوله إلى وحشٍ ضارٍ،

حتى تلك الليلة التي واجهته فيها ببؤسها وخطئها الذي ارتكبته عندما عارضتت أهلها، كانت تعني كل ما قالت، تركته خلفها لتجمع ثيابها وترحل،

تفاجأت به يدفعها وينهال عليها ضاربا إياها بكل قسوة، اندفعت الدماء لتغرق ساقيها، فقدت الوعي،

لينتبه فجأة لركلاته القاسية التي استهدفت بطنها المنتفخ، ارتد للخلف بفزع، فتح الباب في محاولة منه لتدارك ما أفسده، بداخله ثورة لا تهدأ، تشعلها أقل الأشياء،

ولا يخرجه منها في كل مرة إلا انهيارها وطرقات النجدة،

حملها أحدهم أمامه دون أن يتحرك له ساكن، أصابه الذهول كمن غاب عقله لفترة، وارتد فجأة.

 أفاق بعد وقت لا يعرف مداه، ذهب خلفهم فلم يجد منهم أحدا،

جلس على الرصيف المجاور لمبنى سكنه ضائعا لا يعلم ماذا يفعل، توقف العالم،

وتوقف عقله بدوره، داهمته الكثير من الأسئلة: كيف، ولماذا يفعل بها ما فعل وهي من ضحت برضى والدها وأخيها لتنال قربه وتظفر بوده.

استقام واقفا عندما رأى أحد جيرانه عائدا، تردد أن يسأله، شعر الأخير بموقفه فأجابه دون سؤال عن مكان المشفى فقد حملوها إلى المشفى القريب،

ذهب من فوره ليطمئن، لم يكن يعلم ما سيواجه. وهناك، قابله أحد الجيران بنظرة عتاب، وقف ينتظر ما ينتظرون، اعتدل الجميع في حضرة الطبيب الذي نظر إليهم متسائلا:

– أين أقاربها؟

تحرك بوجل قائلا:

– أنا زوجها

– فقدت زوجتك الجنين، من الواضح أنها تعرضت لهجوم عنيف،

فاضطرت إدارة المشفى، لتحرير بلاغ ضد من اعتدى عليها بالتأكيد تعلم من الفاعل!

اتجهت النظرات نحوه، كان ثابتا عند سماع خبر وفاة ابنه المنتظر،

قابل كل كلمات الطبيب في صمت قطعه مجيء ضابط الشرطة للتحقيق في الواقعة، طلبهم للإدلاء بشهادته،

ولكنه أعفاهم جميعا من الحرج، تقدم وأقر بم فعل، فاصطحبه ضابط الشرطة إلى القسم مسجلا اعترافه في محضر رسمي.

 تمسك بثباته وهو يعترف، استسلم لمصيره كمن يعاقب نفسه بتهمة التفريط والغباء، طال بقاؤها في المشفى، تردد بعض الجيران عليها

 فقد استحوذت على تعاطفهم، لم تتأثر عندما علمت ما ألمّ به فهو نتيجة طبيعية وعادلة،

لم تنكر أمام الشرطة أنه الفاعل، فكرت في مهاتفة والدها بعد أن شعرت بثقلها على الجيران، لكنها امتنعت، فلم يكن فعلها هينا أبدا.

أعادت النظر إلى درج منزل والدها، تراجعت عن صعوده، استدارت لتعود أدراجها،

كانت خائرة القوى إثر ضعف أودى بصحتها، مادت الأرض بها،

بسطت يدها في محاولة يائسة للتمسك بأي شيء، حينها شعرت بيدين تحملانها، تنجدانها من السقوط.

نجحت محاولاتهما هذه المرة، رفعت رأسها لتجد والدها وأخاها يمسكان بها وعلى وجههما نظرة حزن لما آلت إليه حالها.

 دفنت رأسها في حضن والدها، استقبلها الأخير دون تردد، ربتا على ظهرها في حنو، وصعدا بها إلى الأعلى خطوة بخطوة إلى بر الأمان.

عودة
عودة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى