أدبي

سالب حياة

وقت النشر : 2022/07/04 11:26:11 PM

سالب حياة

بقلم: نورا عبد الوهاب الزهيري

صباح ليس ككل الصباحات الماضية، ها قد انقضى الشتاء بعثراته الرمادية والأمطار المضطردة هنا وهنالك، لتفصح أشعة الشمس البهية في حلتها الذهبية عن وفودِ ضيفٍ جديد، عسى أن يكون ربيعًا ورديًا كوروده المتناثرة والمتلاحمة في حدائق اصطفت مرحبةً بالضيف السَّخِي في عطاياه من كل عامٍ بذات الموعد؛ لتصير أيامهم مزدانة بضحكاتِ خيرٍ.

كضحكات أولئك الرفاق الخمسة وهم يعدون خارج أبواب فندق الرحلات -الذي استقبلهم لأيام وأيام في نزهتهم الجبلية بشمال سيناء- عائدين للأحباب بعاصمة الفؤاد، حين بادرهم “أيان” ببسمةٍ علت الثغر بينما يعدو صوب سيارته المنتظرة على جانب الطريق:

– الأخير قائد اليوم، لا جِدال.

هرول الرفاق يتسابقون أيهم يصل أولًا كيلا يكون ضحية قرار صديقهم ما عدا “صافي” الذي بدا مشغول البال ولم ينتبه لفعلهم، وصل أخيرًا حيث استقر بهم المقام يتضاحكون بالفوز، طالعهم في ريبٍ وتساءل حائرًا:

– ما الأمر؟ أما زلتم تتضاحكون على هذيانكم بالأمس؟

ثم مال متعجبًا حال صمتهم صوب “أيان” الجالس بين “حازم” و”نادر” بالمقعد الخلفي:

– ماذا تفعل هنا؟ تَرَجَّل عن مكاني لتقود بنا.

فأجابَ باسمًا:

‏- ليس اليوم يا عزيزي، وصلت متأخرًا وعليك القيادة بنا.

– ولكن..؟

‏قاطعه “حازم” مؤكدًا:

– لا رجعة في قرارنا، أنت الأخير، الخاسر بيننا.

على مضضٍ، جلس “صافي” خلف عجلة القيادة ومضى بالرفاق ما بين ضحكات وحكايا كانوا أبطالها، يستذكرون العثرات زمنًا ثم الاتحاد لينهضوا من جديد، ماحين براثن الخفقات التي أحالوها فيما بعد عنفوان نجاحهم، وشتى ذكريات باتت اليوم الدافع لينالوا مرادهم، ذلك المراد الذي تبدد لحظتهم التالية إثر حادثٍ أليم استقر به المقام ليكون رفيق دربهم الذي ارتوى بدماء بعضهم دون أحدهم.

يعيد تدحرجها مراتٍ ومرات رأسًا على عقب؛ استقر بها المقام على العجلات ولفَّهم صمتٌ مهيب تخلله اضطراب توقف الركاب من حولهم وهرولة المسافرين يترجلون من السيارات المتناثرة على الطريق وخفقات القلوب تلهج بالدعاء “يا رب سَلِّم”.

ما بين الوعي وفقدانه، أبصر أطيافًا يهرولون صوبه تارة ويفرون أُخرى، بيد أنها سرعان ما تلاشت وهوى في الظلام وأحدهم يشد من عَضدِه “ألَّا تخف، نحن هنا معك”.

قبيل الغسق بقليل استرد “صافي” وعيه وسط هرج ومرج، وضجيج اخترق أذنيه، يكاد يثقبهما ويصيبهما بالصمم، لا يكاد يعي ما يحدث من حوله، وبشق الأنفسِ اعتدل جالسًا بعدما كان مُمددًا على جانب الطريق.

يجول في المكان من حوله بعينين زائغتين، ممسكًا رأسه بيدين داميتين عَلَّ آلامه تنزوي مدحورة دون رجعة، مشتت الذهن، لا يذكر ما حدث حتى ما إن أبصر سيارة “أيان” مهشمة النوافذ، قد نُزع باباها اللذان في مواجهته، وأناس لا يعلم كنههم يتحلقون حولها يتحدثون تارة ويتجادلون أخرى أُحيل جزعًا وكأنما تيار كهربائي سار من خلاله، وهَبَّ واقفًا يتمتم بكلمات مبعثرة حال تَذَكُرِهِ:

– يا رفيق، أنت الأخير، الخاسر بيننا.

قبلما يهوي من جديد فاقدًا الوعي، قد انتبه إليه بعضهم فهرولوا إليه جزعين يتبينون نبض قلبه الذي بات مُذبذبا.

عند منتصف الليل، وبين عديد من الأطباء داخل قسم الطوارئ بمستشفى “بورسعيد” العام، تفرق الرفاق الخمسة ما بين حالة حرجة وأخرى متوسطة وثالثٍ ليس به شائبة، اللهم إلا فقدانه للوعي وسحجات نازفة، بينما تفرد رابعهم بحالة هياج واضطرابٍ شديدين غير آذنٍ بانفراجةٍ لفجيعته التي حلت دون موعدٍ بترجل خامسهم عن درب الحياة بينهم، غير آذنٍ للأطباء من حوله بتضميد جراحه المتفرقة بأنحاء جسده المتأرجح لوهنٍ قد تملكه مُشيرًا صوب “أيان” صارخًا بهم:

– افعلوا شيئًا، لا تتركوه، لم يزل يتنفس.

ودافعًا أحدهم صوب صديقه، راجيًا إياه، متوسلًا:

– رجاءً، أعده إلينا.

وذات اللحظة التي استرد فيها “صافي” وعيه فزعًا، لا يكاد يسمع أو يرى غير “حازم” الماثل أمامه بتلك اللحظة بالمنتصف تمامًا، مختلج القلب، مستمرا في التوسل لكل مَن حوله ألا يستسلموا رغم إذعان الجميع ألَّا سبيل من المحاولة، فلم يجد سبيلًا غير المحاولة بذاته.

هرول صوب صديقة الساكن عن كل شيء، لا يبالي بضجيجٍ يسكن داخله، بأنفاسٍ مثقلة وقلبٍ يقطر ألمًا وفقدًا على مصابهم، نهض “صافي” وسار نحو صديقه بساقين مرتجفتين، عاجزتين عن حمل الجسد الهزيل، حتى ما إن صار نصب العينين تجرأ وهمس مُلتاعًا:

– أرجوك، لا تفعل.

و”حازم” في ذهولٍ ونكرانٍ لم يزل محاولًا والأطباء يحاولون إثنائه عن “أيان”ما بين شدٍ وجذبٍ، بكاءٍ وعويل، وهرولة “صافي” لرأب صدعه.

سقط بين أحضان صديقه فاقدًا الوعي وساد صمتٌ مهيب لحظته التالية، تخلله رجيف قلوبٍ وأيادٍ ما لبثت أن مدت بالمساعدة.

– الأطباء يقتلون أيضًا، ليس بتشخيصٍ أو دواءٍ خطأٍ كما يظن كثيرون، إنما بالكلمة.

بتلك الكلمات أجاب الدكتور “حازم” عن سؤال ذلك الصحفي بمقابلته الثانية، على هامش المؤتمر الطبي لأطباء شرق المتوسط المنعقد ب”القاهرة”:

– هل ارتكبت خطأً ما أودى بحياة أحد مرضاك يومًا؟

والذي عَقَّب ذاهلًا:

– ماذا؟!

فأوغل النظر بعينيه زمنًا قبلما يبوح آسفًا:

– يومها، صرخت عليه مثلما لم أفعل من قبل، سببته، اتهمته بما ليس فيه، وصمته بأبشع التهم.

ثم ازدرد ريقه مفصحًا كأنما يستعيد تلك الذكرى بما تحوي من آلام من غياهب الذاكرة مستطردًا:

– ذلك اليوم، حين استرددت وعيي مجددًا، هجوته دون سبب، قلت له أنت السبب، لولا تهورك بالقيادة لكان “أيان” معنا.

سألني مشدوه العقل غير مصدقٍ:

– ماذا؟!

_أجل، أنتَ قاتِله.

كانت هذه كلماتي إليه، دون ذرة ترددٍ واحدة، قتلته بآخر لقاءٍ بيننا قبل عِشرين عامًا زائلة.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى